فلسطين أون لاين

​المقدسي المُبعَد محمد حمادة

ابن الجبل.. حنينٌ لــ ِ"قُبَّة" وحفنة زعتر

...
حمادة (أرشيف)
القدس المحتلة / غزة - حنان مطير

في مساءات قرية "صور باهر" الشتوية، تنصتُ النجوم لأصواتِ ضحكاتِ الشباب السّهارَى وهمساتِ حكاياتِهم، فتغمزهم بلَمْعةٍ تارةً، وأخرى تستحيي، فتخبو وتنطفئ...

ما أبْهاكِ يا شاهقةَ الجِبال، وما أحلى لياليكِ البارِدة، تلك التي يخرج فيها الضباب مع الأنفاسِ ، وما "أحنّ" رياحك حين تهبّ "قويةً" فتحمل معها صوت "الله أكبر" صادحاً من المسجد الأقصى في الليالي الهادئة من أصوات أهل القرية، ما أجمل فضاءكِ العبِق بنار الأحطاب، ما أشهى رائحة سنابل قمحك الطريّة الناضجةِ وسط النار، كأمٍ أنتِ تلفّ أولادَها في حضنِها الدافئ، فيغفون ويحلمون ويتمنّون لو أنّ الليل يطول أكثر.

حنين للقدس

إنها ليالٍ كوشاحٍ أسمر حريريّ يداعب وجه الأسير المُحرَّر محمد حمادة إذا ما مرّت على خاطِره وهو منهمكٌ في العمل بمكتبه الإعلامي يُحلِّل ما تقوله الصحف الصهيونية ، أليست هذه مشاعرك يا مقدسيّ بعد أن أبعدك الاحتلال إلى مدينتنا السّجينة غزّة؟ أظنّك تبتسم الآن وأنت تقرأ عن نفسِك وتقول "بلى إنها كذلك وأكثر"، فحركتُك العفويّة وابتسامتُك التي وشّحت ملامحَك حين التقيتُك في مهمةٍ صحفيةٍ وسرَدتَ لي فيها بعضاً من حكاياتِك حين كنتَ طفلاً تجري بين أروقة المسجد الأقصى وتنزلق عن سلالِمِه، ثم شبلاً تلاحق الحَمام بين الجبال وبالحبوب تنوّمه، وفتىً تغامر متنقلاً بين قمم الجبال من أجل الوصول إلى دير مارسابا والدخول فيه؛ تلك الابتسامة التي لم تغادرك؛ كانت تحمل حنيناً وأنيناً أظنهما يعلوان قمم جبال قريتك التي حُرِمتَ منها ضريبةَ مقاومتِك للمحتل الإسرائيليّ.

حول المسجد

في بيتٍ أنفاسُه إيمانية تُتْلَى فيه آيات القرآن الذهبيّة، نشأ حمادة وترعرع حُراً طليقاً، فوالدُه إمام مسجد في القرية، وموظفٌ لمدة ثلاثين عاماً في ساحة مسجد قبة الصخرة التي يسميها المقدسيون "سطوح الصخرة"، يُدرِّس القرآن الكريم ويلتف حوله الشيوخ، بينما بجانبه حمادة ابن الخمس سنوات مستمع يحملق تارةً في حركة شواربهم ومخارج حروفِهم وروعة لفظِهم، وأخرى ينعس فيُغْفِلهم وينطلق للَّعب في الساحات الوسيعة، حتى بات كل شبرٍ من أرض المسجد يشهدُ على طبطبة قدميه، لقد عشق رائحة أشجارِه وصفار قبّته وعراقة جدرانِه وصلابة أسوارِه ، بينما لحريّة حمائمه معه ألف حكاية أروي لكم منها واحدة.

يقول حمادة:" كنا نشتري القمحَ المخدِّر أنا وأصحابي منذ الصباح الباكر ، ونذهب بين الجبال المشهورة بكثرة الحمام.. نرشّ القمح على الأرض وننتظر لساعاتٍ طويلة حتى يأتي الحمام ويأكل القمح.. ثم يطير البعض منه مُتخدراً، فنمسكه فرحين من أعالي الجبل، والبعض الآخر يطير إلى جبلٍ آخر قبل أن يسري مفعول القمح المخدِّر في جسده".

جنونُ الحمامِ والمغامرة يلاحقان أولاد الجبل، فيلحقونَه للجبل الثاني، يطيرون خلفه مسرعين كما لو أن لهم أجنحة، لا يهمهم تعب أو مشقّة، فيوم من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً يقضونَه بين الجبال قد يكون حصيلة صيده أربع أو خمس حمامات فقط! يعلق:" كلّ همّنا في طفولتنا أن نقضي وقتاً رائعاً في اصطياد الحمام ثمّ شيّه مساءً.

حكاية الموسم

في قرية "صور باهر" الواقعة جنوب شرق مدينة القدس، عاش حمادة حياة البساطة والِفلاحة في الأرض مع عائلته ، ففي كل موسمٍ له معه حكايةً..

ما تزال حبوب القمح في "البيدَر" محفورةً في ذاكرتِه كنقوشٍ قُدِحت بالزِّناد على حجر صوّان، حيث موسم "الحصيدة"، ذلك الذي يخرج بعده حمادة مع العائلة والأقارب إلى البيدَر "منطقة مستوية صخرية"، ينطلقون لدرس القمح ليلاً ويستمرون حتى الصباح في أجواء وديّة جميلة ولا يتغنون بـ" شفتك يا جفلة ع البيدر طالعة، ووجهك يا جفلة الشمس الطالعة".. فأغانيهم بالعادة لم تكن لتنتهي وقت الحصيد وليس البيدر.. "كنت أشاركهم العمل منذ عمر العاشرة كأي فلاح نشيط وصاحب مسئولية" يحكي لفلسطين.

أما شتاءً، فيجتمع حمادة مع أصحابِه حول كومةٍ من الحطب المُجمَّر ، يتسامرون ويستأنسون بحرارتها وبنجمات السماء، ويستمتعون بطعم الفريكة المشويّة، يروي:" كنا نزتّ "نرمي" سنابل القمح الممتلئة في النار لتخرج طريةً مشويّة برائحةٍ زكيّة، نفركها فتتلوّن أيدينا باللون الأسود بفعلِ قشورها المحروقة، ثم نتناولها بشوقٍ وشهيّة"..

إنها ليالٍ من أجمل ليالي العمر، حين كانت حكايات الليل وضحكات الساهرين تختلط برائحة دخان الحطب والتراب الرّطب بماء المطر.

أيام الصيف

وفي صباحات الصيف الجميل، يخرج حمادة شابّاً مع الرُّعيانِ قبل أن تستيقظ الشمس، تصاحبُهم طيور الفجر المشقشِقة ، حيث يكون العشب ندياً طرياً لم تجفّفه حرارة الشمس النائمة بعد، وقد سَخَّر الله لهم الأنعامَ، فيرعاها ويتأملها حمادة ويتفكّر في خلقِها وتكوينِها وبديع صنع الله فيها.

يتذكّر مبتسما:" كم كان رائعاً منظرها بين العشب الأخضر، تأكل وتسمن وتشبع، ثم نحو العاشرةِ وقبل اشتداد حرارة الشمس نعود لبيوتِنا".

بينما في الربيع يخرجون من العاشرة صباحاً حتى وقت الغروب، وقد تزوّدوا ببعضٍ من الطعام على رأسه الخبز وزيت الزيتون واللبن وبعض الخضار ذات الرائحة النفّاذة، فهي كما يقول حمادة: "ميزة الجبل أنه لا يكثر فيه الماء فتكون رائحة الخضرة بلديةً خالصة".

يدورون بين الجبال العظيمة، يضيعون فيها.. يقطفون الزعتر الجبليّ ويتناولونه بنهم، يوضح "إنه أحرق من الفلفل الحار وأشهى من أن يتخيّله من لم يذقْه".

الوصول لدير مارسابا

وهل تحلو الحياة بلا مغامرة؟ لا أظنها تحلو أبداً، وهذا الروائي البرازيلي باولو كاويلو يقول "إن كنت تعتقد بأن المغامرة خطرة، جرب الروتين فهو قاتل".. في بلدة "عرب ابن عبيد" يقع دير مارسابا شرقي بيت لحم، ويطلّ على وادي الجوز "القدرون"، وهو واحد من أقدم الأديرة المأهولة الموجودة في العالم.

الفضول يداعب قلب حمادة "يلا يا شباب نجرّب.. لازم نصل للدير وندخله"، خرج برفقة ما يقارب 15 صديقا، وكان حينها في عمر السابع عشر، أمضوا ثلاث ساعات يسيرون ذهاباً، يروي:" عطشنا عطشاً شديداً فصرنا نرى السراب أمام أعيننا، بحثنا عن بئر ماء ولم نجد، لكننا لم نفكّر بالعودة دون الوصول للدير، قررنا أن نواجه ما نواجه دون تراجع".

كالمجانين.. يعتلون رأس الجبل ثم يهبطون ليعتلوا جبلا آخر، ويأخذ ذلك من الوقت ما يقارب النصف ساعة من الجبل للجبل، وأخيراً عثروا على النعيم، لا تغضب يا سيد "حمادة" من استخدامي لمصطلح الجنون فلا أروع من جنون البحث والمغامرة، إنني لأكتب وأفتخر بك وبجنونِك.. المهم الآن.. أنكم عثرتم على بئر ماءٍ حقيقيّ.. فيا لفرحتكم، وأخالُ أني ألمس منها شيئاً كواحدةٍ من محبي المغامرة..

يقول:" وصلنا الدّير، فأَطْعَمَنا الرّهبانُ يومها سمكاً لذيذاً.. لكنهم لم يأذنوا لنا بالدخول، لقد عدنا بخفي حُنين".. لكن بعد أن غنِمتم شرف التجربة يا حمادة.

تجربة فاشلة

مغامرةٌ أخرى وتجربة جديدة، فالفضول ما يزال يتملكهم لدخول الدّير، ذلك الذي لا تدخله النساء بتاتاً، وهذه المرة وصلوا مع مجموعةٍ من المسيحيين، دخلت الرجال وظلّت النساء خارجاً، اتفق حمادة مع رفاقه على انتحال أسماء مسيحيّة، هذا بطرس وذلك نيكولا وآخر طوني وغيره جويس.. يقول:" أخبرناهم بأسمائنا واحداً واحداً، وكدنا ندخل لكن أحداً من الأصدقاء رفض إلا أن يقول اسمه الحقيقي "محمد" فكان سبباً في منعنا من الدخول مرةً ثانيةً"، ضحكت وقلت لحمادة ‘نني لو كنت معهم لاقترحت أن يلقوا ذلك "الصادق" من رأس أحد جبال صور باهر.

لم يفقد حمادة الأمل، وقرر المغامرة للمرة الثالثة، وهذه المرة باستخدام طريقةٍ مختلفة واضحة وصريحة، يضيف:" ارتدينا قمصاناً كُتِب عليها "الإسلام هو الحل" باللغتين العربية والإنجليزية وحملنا الكاميرات، ثم انطلقنا للدير، وهناك أخبرناهم أننا نريد دخول الدير والتعرف عليه، فكان الأمر أبسط مما توقّعنا".

يتبع:" بكل بساطةٍ وافقوا على طلبنا وتركونا ندور فيه ونبحث ونلتقط الصور، كان رائعاً وغريباً مليئاً بالذهب اللامع، فيه الكثير من جماجم الرهبان الذين خدموا في الدير منذ آلاف السنين".

لقد قصّ عليه الرهبان حكاية الرّاهب سابا الذي حمل الديرُ اسمَه فقال:" نَذَر سابا لربّه ألا يرى امرأة في حياتِه، وذات مرة أطلّ من باب الدير فإذ بعينِه تقع على امرأة، ففقأ عينه لحظتها، ومنذ ذلك اليوم لا تدخل النساء الدير أبداً، أما جسدُه فما زال كما هو لم يتحلّل أو يتغيّر، يقولون إن تلك كرامة لصلاحِه".. يبتسم حمادة، ولا تعليق.

عشق القدس

لم تنتهِ الحكايات ولن ينتهي الشّوق في قلب حمادة، فرائحة التاريخ في الأسوار والمباني والأزقة المقدسية، لها نكهة حقيقية خاصّة – كما يقول- إنها رائحة التاريخ تفوح فتُخدّر الجسد حنيناً وتُنعِشه أملاً وحباً، ولشدة ما أحب حمادة القدس ومسجدها غامر كثيراً من أجل إيصال المشتاقين لها.

أخبره صديقٌ سعودي ذات يومٍ أنه يتمنى أن يدخل المسجد الأقصى ويصلي فيه، للسعودي هذا ملامح شقراء، يرتدي نظارة سميكة العدسة، فبات أقرب بالشبه للحاخام اليهودي من العربي أو المقدسيّ.

"إذا نادى عليك أحد من الشرطة لا تكترث وكن كأنك لم تسمع"؛ قال للسعودي فارتبَك، طمأنه ودخلا، فإذ بأحد حراس الأقصى المقدسيين يناديه بالعبرية؛ غاضباً "وين رايح؟!"؛ يظنّه مستوطناً، فتنتبه شرطة الاحتلال، ويحلّ القصةَ "سواعد".

وسواعد هو شرطيّ عربيّ من الداخل المحتل، استطاع حمادة كسبَه لإدخال الشباب العاشقين للصلاة في الأقصى.

وآخر، مطلوب للاحتلال، وابن صفّه في الثانوية، وفيه من الشبه بعض الشيء، كان يحلم أن يرى فلسطين من الداخل المحتلّ فقال له :"واللي يخليك تلفّ فلسطين وتْكيِّف؟!" .. ردّ متشوقاً: "إيدي في حزامك"، فأعطاه بطاقته الشخصيّة الزرقاء "الإسرائيلية"، كانت مغامرة هي الأجرأ والأخطر.

قليلٌ من الحكايات المقدسيّة رواها لي، وكثير من الشوق قد اجتاحَه، فحتى حين زار "الكعبة" بعظيم بهائها وقدسيتها لم يشعر أمامها بمثل ما يشعر حين كان ينظر إلى المسجد الأقصى وباحاتِه وأسوارِه وقبة صخرته. يختم بقوله لفلسطين مشتاقاً:" إنها قطعةٌ من الرّوح، هي مدينتي ونبضي وأمي البعيدة".