يومًا ما قال تيودور هرتزل رئيس المنظمة الصهيونية العالمية لعام 1897م: "إذا حصلنا يومًا على مدينة القدس، وكنت لا أزال حيًّا؛ فسوف أسحق كل ما هو غير مقدسٍ لدى اليهود فيها، سوف أحرق كل الآثار التي مرت عليها قرون"، مات "هرتزل" لكن أتباعه اتخذوا مقولته "وصية" بدؤوا تنفيذها مباشرةً بعد الاحتلال الكامل للمدينة المقدسة عام 1967م.
منذ ذلك التاريخ لم تتوانَ قوات الاحتلال عن استهداف "بيوت العبادة": المسجد الأقصى ومئذنة الأسباط وكنيستي القديس حنا وكلية "شميدت"، وتدمير أحياء بأكملها وتشريد أهلها، كما حدث في 11 حزيران (يونيو) من العام نفسه، عندما دمرت جرافات الاحتلال 135 منزلًا في حي المغاربة الملاصق للأقصى، وشردت من أهله 650 إنسيًّا، وهدمت مسجدين أحدهما مسجد البراق، بزعم البحث عما يقولون: "إنه أجزاء مخفاة من حائط المبكى تحتها".
لم يشبع الاحتلال غريزة حقده بهذا وحسب، لاسيما أن كل تلك الإجراءات لم تحقق الهدف المطلوب بتفريغ المدينة من أهلها لتوطين اليهود الجدد، فأمعن في سياسة طمس التاريخ، وتحديدًا في 14 حزيران (يونيو) 1969م، عندما نسفت القوات الإسرائيلية 14 دارًا من الدور الدينية والأثرية العربية، ضمت مسجدًا، والزاوية الفخرية، التي كانت مقرًّا لمفتي الشافعية، وهذا أيضًا بحجة توسيع امتداد ما يطلقون عليه اسم "المبكى".
خطط التهويد لم تتوقف، لا تحت أرض الأقصى، ولا فوقها، وفكرة "القدس وطنٌ لليهود وحدهم" لم تلبث أن صارت عنوانًا يتغنى به الإسرائيليون أمام الأجانب والسياح، "لولا تحركات الفلسطينيين المضادة": الانتفاضة الأولى 1987م، وهبة النفق 1996م، وأحداثٌ أخرى انتهت بفكرة شيطانية وردت أولًا على لسان "ديفيد بن غوريون" أول رئيس وزراء لما يسمى (إسرائيل) تحت عنوان "العزل"، فكان "أرئيل شارون" أول من وضع الخطة قيد التنفيذ مع انتصاف عام 2002م بعنوان "الجدار الفاصل"، وذلك عقب فشل عملية "السور الواقي" حينها في القضاء على البنى التحتية للمقاومة.
كان الهدف الواضح من بناء الجدار في حدود المشروع الذي يطلق عليه الاحتلال اسم "القدس الكبرى" خفض نسبة السكان الفلسطينيين من 35% إلى 22%، وهو الأمر الذي يكشف مشروع تهويد المدينة وترسيم حدود جديدة لبلدية القدس من جانب واحد.
حسب مسار الجدار في القدس إن "القدس الكبرى" ستضم إلى نفوذها ثلاث كتل استيطانية كبرى: (غوش عتصيون) في الجنوب، و(معاليه أدوميم) في الشرق، و(جفعات زئيف وجفعون) في الشمال الغربي، البالغ مساحتها الإجمالية نحو (164) كم2، ستقتطع من أراضي الضفة الغربية، لتدخل ضمن حدود مدينة القدس.
الجدار تسبب بأوضاعٍ كارثية لسكان القدس على مختلف الصعد، لاسيما أن ما يقرب من 231 ألف فلسطيني تأثروا بنتائجه، أي نحو 56% من سكان المدينة.
الجدار فصَل تجمعات ومناطق سكانية مكتظة، مع وجودها داخل منطقة نفوذ بلدية القدس، وأخرجها إلى جانبها الشرقي باتجاه الضفة الغربية، مثل: (حي كفر عقب، وسميراميس، ومخيم شعفاط للاجئين)، التي يقطن فيها نحو (30) ألف نسمة، وعزَلَ القدس عن عدد من المدن الفلسطينية، من بينها رام الله وبيت لحم، وعشرات القرى التي يسكن فيها مئات آلاف الفلسطينيين في الشمال والشمال الغربي، وترتبط بمبانيها وطرازها العمراني مع الأحياء الواقعة داخل منطقة نفوذ القدس.
إن إقامة الجدار حول تلك القرى يعني ضمًّا فعليًّا للمستوطنات المحيطة والمجاورة، ومسًّا خطيرًا بنسيج الحياة لسكانها، علمًا أنه من بين سكان هذا "الجيب" آلاف المواطنين الفلسطينيين الذين يحملون بطاقات الهوية الزرقاء، التي تمكنهم من الوصول بحرية إلى القدس.
وفي ضوء صعوبات العثور على سكن في الجزء الشرقي من القدس داخل حدود بلدية القدس التي رسمها الاحتلال انتقل عشرات آلاف المواطنين المقدسيين إلى السكن في الضواحي، الأمر الذي بات يهدد بتدمير النسيج الاجتماعي والديموغرافي الفلسطيني ما بين خارج الجدار من جهة الضفة المحتلة، وداخله من الجهة الغربية (الإسرائيلية)، وأصبح نحو 55 ألف مواطن فلسطيني من حملة هويات "الإقامات الدائمة" مفصولين عن مركزهم الحضري (أي خارج الجدار) من أصل 222 ألف فلسطيني يقطنون ضمن حدود "بلدية القدس".
تجاوز الجدار بخطورته تغيير ديموغرافية المكان إلى محاولات تغيير واقع العلم والتعلّم، لاسيما أنه أثّر على تشغيل مدارس وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة لهيئة الأمم المتحدة (أونروا)، إذ منع وصول الطلاب اللاجئين إلى مدارسها ومدارس السلطة الفلسطينية، وأجبرهم على عبور الحواجز يوميًّا في طريقهم إلى مدارسهم الواقعة ما وراء الجدار، فضلًا عما ينتظر الطلاب من تكاليف باهظة لانتقالهم من أماكن سكنهم إلى مدارسهم التي ستقع بعد اكتمال بناء الجدار خارج قراهم.
وعلى الصعيد الصحي تسبب الجدار في فصل سكان قرى وضواحي القدس الواقعة خارجه عن المستشفيات الرئيسة التي يعتمدون عليها للحصول على الرعاية الطبية المتخصصة، ما يعني مزيدًا من المعاناة لهم، وللطواقم الطبية التي تواجه مصاعب جمة للوصول إليهم، بسبب الوقت والإجراءات الاحتلالية وتصاريح المرور من البوابات والحواجز المقامة في الجدار، ويرفض الاحتلال منحها في كثير من الأحيان للمرضى، أو أقاربهم الذين يرافقونهم.
دمر الجدار أراضي زراعية، ومنتجاتٍ إنشائية كثيرة، حتى إنه منع أصحابها من الوصول إليها، وحرم عشرات آلاف الشبان فرص العمل فيها، هذا فضلًا عن تسببه بتردي مستوى الخدمات البلدية في تلك الأحياء من أعمال الصيانة والتنظيف للطرق التي لم تعد مشمولة بعمل عمال البلدية في القدس، وفي الوقت نفسه لا تحظى باهتمام الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى تراكم النفايات في الشوارع، ودفع الاحتلال نهاية المطاف إلى تشكيل "الإدارة المدنية لغلاف القدس" (اسمٌ يطلق على المعازل الفلسطينية التي تقع خارج الجدار) لتأمين الخدمات العامة لتلك الأحياء بتلزيمها لمقاولين في القطاع الخاص.
لقد تغلغلت آثار الجدار في صلب حياة الفلسطينيين الاجتماعية، حين رفع من منسوب ظاهرة استئجار المنازل، وفي المقابل ارتفاع أسعار المنازل المستأجرة إلى (700) دولار للوحدة السكنية المتوسطة المساحة.
الجدار قهَرَ الإنسان الفلسطيني وقطّع أوصال العائلات، حين أجبر المقدسي على طلب "تصريح" للسفر من منطقة إلى أخرى داخل المدينة نفسها، وحين اضطره إلى ترقب اللحظة التي سيستطيع فيها رؤية أبنائه ومشاركتهم في مناسباتهم الخاصة وأعياد الله.
الاحتلال درس أمر الجدار جيدًا، فتوصل إلى أنه أنسب طريقة بجانب الاستيطان، لإحكام حصار المدينة والتضييق على أهلها ليهجرهم قسرًا، الجدار لم يترك مجالًا من مجالات الحياة إلا أحدث فيه تدهورًا يمس تاريخ المدينة وحضارتها وتراثها وآثارها، ليبقى التساؤل الأهم: هل سيستمر "الحياد" موقفًا رسميًّا للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية من هذه الآفة التي تهدد الوجود الفلسطيني؟!