تختلف الطقوس الدينية لكل من المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس، لكن إجماعهما على الدفاع عن تراب المدينة المقدسة لا يختلف أبدًا.
لا يمكن لأحدٍ أن ينسى صلاة ذلك المسيحي مع جموع المصلين الممنوعين من دخول المسجد الأقصى خلال تموز المنصرم، ولا لأحدٍ أن يغفل عِقد الصليب الذي تبرعت به مسيحيةٌ في بدايات انتفاضة القدس، لإعادة بناء منزل مفجّرها الشهيد مهند الحلبي، كلاهما (المسلمون والمسيحيون) تضرب جذورهما عميقًا في تراب فلسطين تحت شمس "إرثٍ واحدٍ مشترك"، عنوانه: "القدس عربية فلسطينية".
الحركات القومية
50% من مسيحيي القدس خسروا منازلهم بعد احتلال غربي المدينة المقدسة عام 1948م، وصادر الكيان العبري 30% من الأراضي التي يملكونها بعد احتلاله شرقيها أيضًا عام 1967م.
فإن الخطر المحدق بالمسلمين هناك هو نفسه الخطر المحدق بالمسيحيين منذ تاريخ النكبة 1948م، وهو (تهويد كل ما يثبت عروبة وفلسطينية قدس الأقداس).
نائب رئيس جمعية حارة النصارى غسان كتوعة وصف التكوين المسيحي والإسلامي في مدينة القدس بـ"الرئتين اللتين يتنفس بهما سكان القدس"، مشيرًا إلى أن الحركة القومية العربية في معظم الدول العربية قادها مسيحيون، فكان منهم خليل السكاكيني، وفؤاد متري فراج.
وقال لـ"فلسطين": "المسيحيون ليسوا نبتة غريبة عن أرض فلسطين، المسيح كان فلسطينيًّا، صمدنا على هذه الأرض، وعشنا ويلات الاحتلالات المتعاقبة للأراضي الفلسطينية، ودفعنا الجزية وحافظنا على قوميتنا وعروبتنا"، مضيفًا: "أنا والمسلم درسنا في مدرسة واحدة، وهو جاري، وزميل عملي، وهو طبيبي وأنا محاميه، كلنا يد واحدة في مواجهة أي أذى يصيب أراضينا ومقدساتنا في فلسطين".
جسد واحد
جدير بالذكر أن الغالبية العظمى من المسيحيين الفلسطينيين الذين تقدر أعدادهم في العالم بستمئة ألف نسمة هم ذوو جذور محلية يتكلمون باللغة العربية، ولديهم تاريخ عريق يصلهم بالكنيسة الأم.
ويعيش أكثر من 70% من المسيحيين الفلسطينيين خارج الوطن، في حين يعيش خمسون ألفًا في فلسطين: 47 ألفًا منهم موزعون داخل الضفة الغربية، والبقية موجودون داخل قطاع غزة، أي أن المسيحيين في فلسطين لا تتجاوز نسبتهم 1.25% من عدد الفلسطينيين الكلي داخل الأراضي الفلسطينية.
وتنظم جمعية حارة النصارى في القدس _تبعًا لما ذكر كتوعة_ كل رمضان حفل إفطار جماعي للمسلمين في باب حطة وحارة السعدية بالمدينة، معلقًا بالقول: "نجلس جميعًا نعد الإفطار الرمضاني، ونحضر برفقة المسلمين أيضًا العشاء للاحتفال بعيد الميلاد المجيد".
وأكمل: "هذا العام بعد تصريح ترامب ستختصر الاحتفالات في بيت لحم على الدينية وحسب، نحن نعمل من منطلق الوازع الوطني الموجود لدينا، فما يحدث على الوقف الإسلامي هنا يصيب الوقف المسيحي، وعلى سبيل المثال: عندما تغلق أبواب البلدة القديمة في وجه الفلسطينيين تغلق في وجه المسلمين والمسيحيين منهم حتى يوم سبت النور".
أضاف: "نحن لا ننتظر أي شكر على وقوفنا مع القدس، هذا واجبنا الوطني تجاه مقدساتنا العربية".
دم واحد
أما عضو المجلس المركزي الأرثوذكسي في الأردن وفلسطين ماهر سحلية فأكد أن ما يجمع المسيحيين والمسلمين فوق أرض فلسطين هو التاريخ والهوية والقضية، قائلًا: "نحن إخوة في الدم، مصيرنا واحد وقضيتنا واحدة، لا فرق بين مسلم ومسيحي أمام مصير القدس بسوى درجة الانتماء والوطنية".
وأضاف خلال حديثه لـ"فلسطين": "الاحتلال عندما يصوب بندقيته أمام الفلسطيني لا ينظر إلى دينه، هو لا يفرق بين مسيحي ومسلم، لأنه لا يرى إلا أننا أهل القدس، وعليه أن يبيدنا وحسب"، مستذكرًا كيف وقف المسلمون والمسيحيون معًا في وجه إغلاق الأقصى قبل أشهر قليلة، وكيف ركعوا معًا في رحاب الأقصى.
أكمل حديثه بالقول: "هذا هو نفسه ما حدث عندما وقف معنا المسلمون قواهم الوطنية ورجالاتهم في قضية البطريركية الأرثوذكسية، ذلك لأن هدفنا واحد، ورؤيتنا للأرض واحدة، هي مواجهة تهويدها".
احتفالات عيد الميلاد
"عندما يحتفل المسيحيون بعيد ميلاد المسيح في القدس يقف الشيخ والمطران جنبًا إلى جنب ينتظران إضاءة الشجرة، وهذا أكبر دليل على التعاضد واللحمة بيننا هنا" زاد سحلية.
ومضى يقول: "القدس هي قلب كل فلسطيني بغض النظر عن هويته ودينه، لقد ولدت في مدينة القدس، وأصدقائي المسلمين كثر، نمر بالطرقات فنقف احترامًا لمقدسات المسلمين، ونزور المسجد الأقصى كي نتعرف إلى تاريخنا عربًا هنا، ونستقبل في مقدساتنا (كنيسة القيامة مثلًا) عشرات الوفود الإسلامية التي تأتي لزيارة الكنيسة والتعرف إلى آثارها وتاريخها"، لافتًا إلى أن ما يربط المسلمين والمسيحيين على أرض القدس عهدة عمر بن الخطاب، التي يسيرون معًا على هداها.
وفيما يتعلق بأعداد الطوائف المسيحية الموجودة في مدينة القدس إن الروم الأرثوذكس تمثل نسبة 51%، واللاتين (الكاثوليك) 33%، والروم الكاثوليك 6%، أما البروتستانت 5%، والسريان والأرمن الأرثوذكس 3% لكل منهما، في حين يمثل الأقباط والأحباش والموارنة وغيرهم من المسيحيين ما نسبته 2%.
ويصل عدد المسيحيين الفلسطينيين داخل أراضي الـ(48) إلى 117 ألفًا، ينتمي نحو 66 ألفًا منهم لكنائس الروم الكاثوليك وللكاثوليك عمومًا، و45 ألفًا ينتمون للروم الأرثوذكس، وينتمي نحو ستة آلاف للبروتستانت.
أكد سحلية أن مدينة القدس هي رمز للتعايش بين الجميع، وهي إرث مشترك للمسلمين والمسيحيين معًا، لافتًا إلى أن مسيحيي القدس مثلهم مثل مسيحيي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وغيرها يواجهون محنة حقيقية، هي الهجرة المتفاقمة، التي تتجاوز بكثير معدلات الهجرة السائدة في المجتمع الفلسطيني.
عدد المسيحيين في القدس تبعًا لإحصاء 1922م وصل إلى نحو 14700 نسمة، ووصل عدد المسلمين إلى 13400 نسمة، وبلغوا في إحصاء عام 1945م نحو 29350 نسمة، والمسلمون 30600 نسمة.
وهبط عدد المسيحيين في القدس عام 1947م إلى 27 ألفًا، بسبب الأوضاع الحربية التي نشأت في فلسطين عشية صدور قرار التقسيم عام 1947م.
عدو شرس
وقال عضو الهيئة الإسلامية العليا بالقدس جميل حمامي: "مسلمين ومسيحيين في مدينة القدس نقف أمام عدو شرس، يريد أن يستأصل كل ما له علاقة بعروبتنا، حين وضع على سلم أولوياته محاربة المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس".
وأضاف: "لا يفرق الاحتلال بين فلسطيني وآخر بناءً على عقيدته ودينه، إنما الفلسطينيون كلهم مستهدفون، ويكفينا أن العهدة العمرية أوضحت العلاقة السليمة والصحيحة بين سكان المدينة المسلمين والمسيحيين، الذين حافظوا على نسيج العلاقة الوطيدة بينهم منذ تاريخ كتابة العهدة حتى يومنا هذا".
تابع قوله: "المسيحيون والمسلمون _أيًّا كانت انتماءاتهم وطوائفهم_ يفهمون طبيعة اللعبة فوق أرض فلسطين، وما يطال المقدسات الإسلامية _وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك_ من اعتداءات هو نفسه الذي يطال المقدسات المسيحية، التي لم تسلم أيضًا من محاولات التهويد والتخريب".
ومن أكثر الصعوبات التي واجهها المسيحيون داخل القدس _تبعًا لما ذكر حمامي_ تسريب أملاك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس إلى الجمعيات الاستيطانية، واصفًا طبيعة تصرفات الاحتلال فوق أرض فلسطين بـ"الاستئصالية" التي تطمح إلى هدف تحويل مدينة القدس إلى مدينة "يهودية خالصة".
وقال: "لا ينكر أحد الوقفة الشريفة والرائعة للمسيحيين في مدينة القدس، ضد البطريرك ثيوفيلوس الثالث، الذي اتهم بتسريب ممتلكات المسيحيين إلى الجمعيات اليهودية، يدًا بيد برفقة المسلمين شكلوا أروع مواقف المقاومة البطولية فوق أرض فلسطين".
وعلق نهايةً: "منذ احتلال فلسطين كل مواقف المسيحيين من التهويد مشرفة، كلنا معًا يدًا بيد نحو قدسٍ عربية حرة".