في عصر طغت فيه الماديات على كل شيء في الحياة تقريبا، بات من المهم أن نعزز انتماءنا نحو الأشياء التي تعني لنا الكثير، فاهتمامك بالشيء يحتاج انتماءك له بالدرجة الأولى، فما هي سياسية الانتماء التي تنقص نفوسنا، فتجعلها خاوية من الشغف، تعيش لمجرد العيش، وتتحرك بآلية تنمّ عن فقدانها الشعور الإيجابي نحو أمور وقضايا كثيرة في الحياة.
وبانعطافنا نحو تفسير الانتماء فهو: الارتباط بالأشياء، والتمسك بها، مما ينتج معاملة خاصة بها ناتجة عن قدر العلاقة وقيمتها بيننا وبينها.
فكل فرد فينا يحتاج أيقونة الانتماء للضغط عليها في كل وقت يستشعر فيه حاجته للدفاع عن أشياء يحبها، يستشعر فيها أن الواجب يناديه، وعليه تلبية هذا الواجب. فهل سألنا أنفسنا عن انتمائنا "للدين، للوطن، للقضية، للغة، للأسرة، للعمل الذي نقوم به، المؤسسة التي نعمل بها،..."، هل يخيل للمرء أن يتنصل من مسؤولياته ولو حتى على سبيل الشعور؟! كيف للمرء أن يركب في سيارة ويتحدث عن خطاب ترامب الأخير ويقول: "ياخدوا القدس ما يخدوها المهم ناكل ونشرب"، طبعا هذا النموذج ليس تعميما لكنه موجود بالفعل، هل نفكر بيننا وبين أنفسنا عن نسبة حبنا للمكان الذي نعيش فيه؟ أو كيف بمقدورنا أن نحبه أكثر، فنتكلم على الأقل بمبالاة أكبر عنه!.
وماذا عن انتمائنا للوطن الأصغر "الأسرة"، هل شعورنا بالحب والواجب كافٍ لهذه المؤسسة الصغيرة التي أنعشت الحياة فينا؟، هل نحن على قيد الحب مع أفرادها، وعلى قيد المسؤولية مع الواجبات المنوطة بنا نحوها؟ في المقابل هل نشعر بانتمائنا للغتنا العربية فنشعر بالفخر لأنها لغتنا؟ أم نشعر بالدونية ونتعلق بأذناب لغات الغرب، فتنزلق على ألسنتنا بعض كلمات الغرب "للبرستيج" وكأننا نشعر بالنقص؟!.
ولو اتجهنا باتجاه العمل الذي نقوم به أو الحرفة ونظرنا إلى ذواتنا من الداخل فهل نحن قادرون على العطاء حتى أقصى درجة انتماء إخلاصًا لهذا العمل الذي نقوم به؟ وهل يشعر الطالب بانتماء نحو تخصصه الأكاديمي؟.
إذًا، الانتماء شيء كبير، نجده يتغلغل في كل شيء حولنا، إن فقدنا الإحساس بالجمال والواجب والحب نحو الأشياء، فهل فكرنا كيف نعزز هذا الانتماء في ذواتنا؟!.
بالدرجة الأولى وجب علينا أن نفهم بأن الإنسان ذو الثقة المهزوزة بنفسه لا يصلح لأن يحتوي عقله وقلبه أي نوع من الانتماء، فغالبا الصور لديه غير مكتملة، ويتسم بالتبعية، وسرعان ما تتبدل انتماءاته بحسب الطقس حوله، لذا علينا أن نعزز ثقتنا بأنفسنا، ثم ثقتنا بالقضايا التي نؤمن بها، وذلك من خلال الشعور، ثم استشعار الواجب والمسؤولية، والشغف بالشيء، وهذا الشغف هو الذي يرتقي بنا إلى حيز الانتماء فيجعلنا نؤمن بالأشياء، ونؤمن بفكرتنا عنها، وأن ندافع عن هذه الفكرة، وأن نكون بمثابة العضو الصالح الذي ينتمي للخلية الكبرى، فيقوم بواجباته تجاهها، ويذود عنها أي سوء يقترب منها، يدافع عنها بشتى الطرق، لا يعرف تقصيرا، بل يشعر تجاهها بالواجب والغيرة.
ينقصنا أن نعزز في أنفسنا وأبنائنا سياسة الانتماء، هذا الشيء الذي يعلمنا الاستقلالية، ويمنحنا بوصلة تقود تحركاتنا، فإن فقدنا هذه البوصلة فقدنا الشيء الكثير من ملامح شخصياتنا، وبتنا على مفترق التبعية، بالقرب من رصيف التردد، وشارع التيه، حيث لا ملامح نحملها تدل علينا، ولا مبادئ نؤمن بها؛ لنستقي منها خارطة مكوناتنا الذاتية والتي تعبر عنا بما يتناسب مع مكوناتنا... سنعيش بلا هدف، لا نعرف مبدأ القيمة، أو سنمنح القيمة لأشياء ليست ذات قيمة، بالنهاية من يحب جمع المال بشهوة هو يؤمن بالانتماء للمادة، والذي يحب الوطن بعمق يؤمن بالانتماء للوطن، والذي يهمل عمله أو لا يخلص فيه لا ينتمي لهذا العمل، بل ويمارسه برتابة للكسب فقط، ونعني بفقط أي دون أي مشاعر تجاهه.
أفضل انتماء للمرء أن يؤمن برسالته التي خُلق من أجلها، ثم رسالته المصغرة في الحياة.
الحياة دون انتماء مجرد قضايا وأماكن وأشخاص دون أي صلات، فما أجمل أن نفهم معنى الانتماء الحقيقي، ونمتلك أيقونة له بدواخلنا تمنحنا أوامر معينة تجاه كل شيء في حياتنا، فنرتبها وفق خطوات دون أي عشوائية.