تظل قضية القدس من قضايا الأمة التي يجب أن تفجر طاقاتها، ومن المؤسف أن نتعامل معها باعتبارها قضية موسمية، ننفعل بمشاهد الانتهاك، أو التهويد، أو لتدنيس باحات المسجد الأقصى من المستوطنين، أو بصدد قرار هنا أو هناك، وجديدها القرار الذي يمارس فيه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أقصى بلطجته وغطرسة غروره وقوته، فيصدر ذلك القرار متحدّيا ومستنفرا في آن كل شعوب الأمة الإسلامية والعربية، بمسلميها ومسيحييها، مساجدها وكنائسها، مدن العرب وعواصمهم قبل مدن فلسطين الحبيبة.
القدس ميزان المقاومة وميزان عزة هذه الأمة. حينما تكون الأمة في قوتها تكون القدس في عزّتها، وحينما تهون النظم العربية، وتتهاون مهرولة ومطبعة ومتراجعة ومنسحبة ومتساهلة ومهدرة للحقوق، وهي بذلك تكون في أضعف حالاتها، وتجعل من سيدها ترامب، بعد أن أخذ أموال هؤلاء، يُهدي أرض العرب وقدس أقداسها لتكون عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين ومحتل أراضيها.
ومن المؤسف حقا أن يصف ترامب غطرسته هذه شجاعة منه، على خلاف الرؤساء الأمريكيين الذين تراجعوا، يقول ببلطجة معروفه عنه، إن هذا القرار تأخر كثيرا. وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية تحذره من ذلك، إلا أنه لا يأبه لتحذيراتهم، لسببٍ بسيط، أن معظم الرؤساء والملوك العرب سبق له قبل إصداره القرار أن تحدث إليهم، معلما إياهم أو ممليا قراره عليهم، بجعل القدس عاصمة لإسرائيل، واعتبروا أن مجرد قولهم أن ذلك يهدّد الأمن والاستقرار شهادة إبراء للذمة، وكأنهم فعلوا ما عليهم. هكذا كانت ردود الفعل الباهتة التافهة حيال قرار تاريخي وجوهري اتخذه ترامب لمصلحة هذا الكيان الصهيوني الذي يصفه بقوله "إن إسرائيل الديمقراطية دولة ذات سيادة من حقها أن تختار عاصمتها"، ويحرم فلسطين من هذا الحق الذي هو لها، بحكم التاريخ والجغرافيا والحقوق الكلية، كما يقرّر التاريخ.
هذا وبكل بجاحة، يضيف إن قراره هذا لا يعني فك التزامه بالسلام. ما يريده ما هو إلا الاستسلام، طبعة خاصة يمكن ترجمتها في تصورّه صفقة القرن، حماية (إسرائيل) واستغلال الوهن العربي الفاضح، وليس هناك أفضل من هذا التوقيت، ليعلن فيه هذا القرار، ليكشف، وبحق، عن عورات الأنظمة المستبدة التي لم تعد تملك إلا انبطاحا وانصياعا وإذعانا يوفر بيئةً ملائمةً لهذا القرار الصهيوني.
قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هو إعلان جديد عن حقائق معلومة منذ زمن بعيد، كما يؤكد ذلك محمد عصمت سيف الدولة، أهمها: موت ما تسمى عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي. وموت اتفاقيات أوسلو. ونهاية أوهام انسحاب (إسرائيل) من أي أرض محتلة أو قبولها بدولة فلسطينية على حدود 1967. وفشل صارخ للسلطة الفلسطينية، وانتهاء دورها، وسقوط رهاناتها، هي ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ 1993. وفضح كل الأضاليل التي تدّعى أن هناك فرقا بين أمريكا وإسرائيل، وتدّعى أنها وسيط نزيه بينما هي العدو الرئيسي. وكذلك هو إعلان جديد وإضافي عن سقوط النظام الرسمي العربي، وعجزه، وفشله في حماية أي حقوق فلسطينية أو عربية، بل وتواطؤ هذا النظام مع أعداء الأمة على ضياعها والتفريط فيها. ونتيجة محتومة لمعاهدات الصلح مع العدو الصهيوني والاعتراف بشرعيته الباطلة، وللتبعية من الأنظمة العربية للولايات المتحدة. وفيه أيضا فضح لكل الحكام العرب في مصر والسعودية وغيرهما الذين روّجوا ما سميت "صفقة القرن".
ومن ثم، يصير تساؤله مشروعا ومهما: كيف يمكن أن يكون ذلك نقطة تحول في ساحات الصراع العربي الصهيوني، تعيد الاعتبار إلى خيار المقاومة والكفاح المسلح، وتعيد الحياة للحراك الشعبي العربي المناهض للكيان الصهيوني، وكذلك للولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة؟ تحتاج القدس أعمالا وأفعالا، وليس مجرد شجب وأقوال، أو قلق وتحذير. القائمة التي انتشرت على وسائل التواصل، باعتبارها قائمة أفعال الحد الأدنى تحت عنوان القدس تنادي، يجب أن تصاغ في شكل آليات متراتبة ومتراكمة، تعلن غضبا مؤثرا وفعالا، يحرّك كل معامل الغضب في الأمة التي يستهان بحقوقها وشعوبها:
سحب اعتراف دولة فلسطين (الافتراضية) بـ(إسرائيل). قطع كل أشكال الاتصال مع سلطات الاحتلال، لا سيما التنسيق الأمني الكارثي. قطع كل أشكال الاتصال والعلاقة الفلسطينية مع إدارة ترامب. إعلان فلسطين القاضي بكف يد إدارة ترامب في "عملية السلام" بشكل نهائي. رفع شكوى في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة لخرقها القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، فيما يتعلق بالقدس الشريف. تفعيل كل الشكاوى وجرائم الحرب ضد دولة الاحتلال في المحكمة الدولية. إتمام المصالحة الوطنية بكل تفاصيلها، بما فيها ما يتعلق بإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني. تأسيس وإطلاق مقاومة شعبية سلمية فلسطينية ضد الاحتلال لا تنتهي إلا بانتهاء الاحتلال. مطالبة الدول العربية والإسلامية بالالتزام بقرارات قممهم بخصوص قطع العلاقة مع إدارة ترامب لاعترافها بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال. الاستجابة لدعوة تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان إلى حشد العالم الإسلامي كله ضد القرار الأمريكي وتهويد القدس، وإطلاق مظاهرات أسبوعية ضخمة في كل جمعة ضد السفارات والقواعد العسكرية الأمريكية في العالم. مطالبة دول العالم وشعوبه برفض القرار الأمريكي، وتفعيل حملات المقاطعة الشاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودولة الفصل العنصري (الأبارتهايد).
الاستعداد فلسطينيًا لمعاناة طويلة، آخرها الحرية والكرامة والاستقلال. تؤكد الحقيقة الكبرى أن القدس ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها تفريطا من هؤلاء الذين ينتسبون لهذه الأمة، ويتحكمون في الشعوب جبرا وقسرا وقهرا. وحقيقة الأمر أن القدس، باعتبارها رمزا للمقاومة، هي في قلب عملية التغيير والثورات العربية التي يجب أن تستمر على تلك الأنظمة التي استأسدت فقط في معركتها في الثورة المضادة، في محاولتها القضاء على الثورات العربية، وصار مثلث الطغاة (الأنظمة العربية) والغزاة (تمثلهم حاليا الولايات المتحدة الأمريكية) والغصب الصهيوني عنوان اغتصاب القدس، هذه المرة ومراتٍ أخرى سبقتها.
والأمر يعني أن القدس تعطي الدرس البليغ أن الثورات العربية واحدة، وأن القضية الفلسطينية والمقاومة التي تدافع عن هذه الحقوق في مواجهة أي غاصبٍ هي في قلب تلك الثورات، وفي قلب عملية التغيير الشاملة المقبلة، ليتأكد أن الأمر جد لا هزل، وأن الثورات العربية هي ثورات للحفاظ على القدس وفلسطين، وأن هؤلاء من فرّطوا وانبطحوا وهرولوا، لابد أن يكونوا محلا لتغيير كبير، سيحين موعده. ويتحقق الأمر الذي يتعلق باستعادة تلك الثورات، واستعادة المقاومة لحيويتها واستعادة القدس وعزتها، إنه العمل الكبير الذي يحتاج رؤية استراتيجية جامعة في مثلثٍ يواجه ذلك المثلث الغاصب بمثلث مقاوم، يتمثل في الثورات، والمقاومة، والقدس.