فلسطين أون لاين

تغريبة المؤبدات.. مع إسلام جرّار (5)

عندما نتحدث عن إسلام جرّار فإننا نتحدث عن شخصية استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة؛ كان استثنائيًا قبل أسره، وتمكّن من المحافظة على استثنائية فريدة رغم أنف السجن والسجّان. أمّا عن استثنائيته قبل وقوعه في الأسر، فيكفي أن نعرف أنّه كان من أبرز القادة لكتائب عزّ الدين القسّام، وفي مرحلة حسّاسة، وفي ظروف ملاحقة أمنية ساخنة، تمكّن من قيادة عمليات فدائية نوعية، كان من أبرزها عملية صفد الاستشهادية، والتي كانت ردًّا على اغتيال الشيخ صلاح شحادة. ويُعتبر إسلام أحد مهندسي المتفجّرات البارزين، وقد شارك في معركة مخيم جنين الشهيرة قبل اعتقاله. ويكفي للدلالة على دوره المميّز أن ننظر مليًّا في حكمه: تسع مؤبّدات وخمسون عامًا.

ثم كانت رحلة الأسر، التي انتقل فيها من حالة الحرية في أعلى درجاتها، حيث كان مشتبكًا بروحه العالية وعنفوانه القوي، وهو في وضعية المبادر في الضرب والإثخان والعمل الفدائي الشجاع، إلى معتقل تحيط به الجدران ويتحكّم السجّان بشكل كامل في حياته بكل تفاصيلها. هنا احتاج إسلام إلى أن يبدع ويفكّر خارج هذا الصندوق الأسود، وهكذا اجترح لنفسه دورًا رياديًا من عمق هذه الظلمات القاهرة، وحوّل السجن من مجرّد مكان للعذاب وقتل الروح وكسر الإرادة إلى فرصة للعمل الثوري المختلف.

هنا كان استثمار إسلام في تحويل السجن إلى معسكر تدريب، وأولى المهام الصعبة في هذا المعسكر، والتي يُبنى عليها كل ما بعدها، هي بناء الذات الثورية فكريًا ونفسيًا وروحيًا. رأى إسلام السجن مصنع إنتاج للثوّار، فأعدّ لذلك برامج ثقافية وتربوية ترتقي بكل قادم إليهم، لتزرع بداخله إرادة حرّة، وفكرًا ثوريًا، وهمّة قويّة عالية.

وسار إسلام مع صحبه بخطّ معاكس لإرادة السجّان؛ عرف ماذا يريد هذا السجّان الحاقد اللئيم: يريد تفريغ هذا المعتقل من محتواه، أن يتخرّج كتلة بشرية وقد فقدت كل ما بداخلها؛ إرادة واهية ضعيفة مهزوزة، ونفسية مريضة مكتئبة مكروبة، وأفكارًا ضحلة لا تسمن ولا تغني من جوع. وكان لإسلام أن يسير بالخطّ المعاكس تمامًا: تقوية الإرادة، وبناء النفسية الصالحة الرشيدة المتوازنة، والحصانة الفكرية المتينة، وذلك وفق منهجية واضحة، وأهداف محددة، وخطة متجددة، ومثابرة دائمة لا ترى في السجن إلا فرصة وتحدّيًا لا مناص من خوض غمارها.

خرّج إسلام كثيرًا من هذه المدرسة اليوسفية الحرّة، وكان ذلك بعملية تعاونية بين العمل الإداري والثقافي في السجن. وكانت رحلة المؤبّدات التسع القاسية لا توهن عزائمه ولا تفتّ في عضده؛ أمله في الله عظيم، ولا يتركه مكتوف الأيدي نادبًا لحظّه، بل بالعكس تمامًا جعلته دائب الحركة والتفكير والإبداع المتجدّد في طرائق ووسائل هذه المدرسة الفريدة.

ووصل المؤبّد السابع من أكتوبر، حيث كانت متوحّشة إلى أبعد الحدود؛ أخرج السجّان، بقيادة العنصري الحاقد ابن غفير، كل ما عنده من حقد وكراهية، وقصد في وحشيّته قادة السجون، وكأنه يريد أن ينتقم من السنوات الماضية التي لعبوا فيها بأدوار ريادية مميّزة. أراد السجّان أن يكسر الإرادة الحرّة ويحوّل مجتمع الأسر إلى قطيع مستسلم ليس له إلا القمع والتعذيب الدائم والمريع. تفنّنوا كثيرًا، وعجّبوا على الأسرى بكل فنونهم العنصرية القاتلة. وتلقّى إسلام من الضرب والتكسير مثله مثل بقية القادة في السجون؛ تحوّلت بالفعل إلى جحيم لا يُطاق، ولم يعد أمام الأسرى إلا الاحتماء بذكر الله، والدعاء، وقراءة القرآن. اعتبر إسلام الحديث النبوي الشريف: «عِظَمُ الجزاء من عِظَمِ البلاء».

بالفعل، هنا تظهر عظمة الرجال، وكان من الأقسى والأعظم وقعًا على هذا الجبل من القوة النفسية والمعنويات أن تمرّ الصفقة تلو الصفقة في إفراجات تبادل الأسرى دون أن يرد اسم إسلام. وكانت الأصعب والأقسى الدفعة الأخيرة، التي تمّ الإفراج فيها عن كل أسرى الأعداء؛ أي لم يعد هناك مقوّمات صفقة قادمة. ومع تغيّر أحوال السجون، إذا هو البقاء في هذا العذاب الشديد. هنا تثبت القلوب: هل ارتباطها بالأسباب أم بربّ الأسباب؟

إسلام ومن معه من قادة عظام وطّنوا أنفسهم، وهناك مركوز في أعماقهم، أن الأمر كله بيد الله، وهذا هو التوكّل الحقيقي بإيمان عميق؛ يرون أن من يتّقِ الله يجعل له مخرجًا، وهذه الآن، مع ثِقَل هذا الابتلاء الكبير، تُثبت الارتباط العظيم بربّ الأسباب.

إلى أين تصل تغريبة مؤبّدات إسلام؟ لا أحد يعلم إلا الله، ولكنه الصبر الجميل، واليقين التامّ بأن لطف الله لا ينفكّ عن قدره أبدًا، وأنّ المقاومة لن تنسى أسودها الرابضة في السجون بأيّ حال من الأحوال.

المصدر / فلسطين أون لاين