على أرض غزة، حيث يمتزج غبار البيوت المهدمة بصرخات الجوع والفقد، وتُكتب حكايات الموت والبطولة بدم الأطفال، ترتفع في الأفق مرآة دامية، تعكس وجوه أمة عربية تقف على ضفاف النهر، تراقب غرق إخوانها، وصوتها لا يتجاوز همس الإدانة والعجز.
هنا، يتردد السؤال المؤلم: ليس لماذا تُباد غزة، بل لماذا تُركت لتموت وحدها؟
الإجابة لا تكمن في خرائط اليوم، بل في جرح غائر حُفر في ذاكرتنا قبل قرن. هناك، في عام 1916، جلس سايكس وبيكو، وبقلم المُنتصر، رسما حدودًا مُصطنعة على خريطة الوطن العربي. لم تكن تلك مجرد خطوط على ورق، بل كانت ندوبًا تُقطع الجسد الواحد إلى دويلات متخاصمة، تهتم بأمنها الصغير، وتنسى كرامة الأمة.
لكنّ الشبح الأخطر ليس سايكس وبيكو، بل الإرث الذي خلفاه، فالاستعمار لم يرحل حقًا، بل خلع بزته العسكرية وارتدى عباءة المثقف والسياسي. وتحول من سيطرة على الأرض إلى استعمار للعقل.
كأن الاستقلال السياسي مسرحية، وظلت الخيوط في أيدي اللاعبين أنفسهم. لقد أُنشئت أنظمة حكم ورثت عقدة النقص الحضاري. فهي ترى نفسها بعيون الغرب، وتقيس نجاحها باعترافه. وتخشى شعوبها أكثر مما تخشى أعداءها.
وكما شخص فرانز فانون، ظهرت بعد الاستعمار "برجوازية وطنية" بوجوه محلية وعقل مستعمِر. هذه الطبقة الحاكمة وَلّدت أنماطًا جديدة من التبعية للغرب عبر رهن اقتصادها بالقروض والدعم الغربي، وإبرام اتفاقيات أمنية وعسكرية تُقييد قرارها السياسي.
ولم يتوقف الإرث الاستعماري عند هذا الحد، بل تسلل إلى أعماق الهوية. فقد نجح المستعمر في تفتيت الروح العربية الجامعة، وغذّى الانتماءات الضيقة: القُطرية، والطائفية، والعشائرية، والدينية.
وهكذا، *تراجعت فلسطين من قضية وجودية للأمة إلى "ملف" سياسي يُدار في غرف مغلقة. فكما كشف إدوارد سعيد صارت النخب تقيّم نفسها بمعايير الغرب، فتحوّل دعم فلسطين إلى خطر على مصالحها*! ولهذا، فإن أي تحرك جريء لنصرة غزة يُعتبر تهديدًا لعروش أقيمت على الولاء للغرب، مما يدفع هذه الأنظمة للتمسك بالخطاب الدبلوماسي العاجز.
وعليه عندما تصرخ غزة اليوم، يصطدم صداها بجدار "المصلحة الوطنية" لكل دولة، ويغرق في وحل الحسابات السياسية الصغيرة.
يرتفع صوت الشعوب مطالبًا بنصرة غزة، يُقابل بالقمع. فالأنظمة التي ورثت خوف المُستَعمِر من الشعوب، تخشى أنْ تتحول مسيرة من أجل فلسطين إلى ثورة ضدها من أجل الحرية.
إذن إنّ المأساة الحقيقية ليست في حرب غزة، بل في هذه اللحظة الكاشفة التي عرّت كل شيء. لقد أظهرت أنّ الدول العربية ما زالت تعيش في ظلال الماضي، وأنّ استقلالها منقوص ما دامت إرادتها ليست ملكها. إنّ السيادة الحقيقية لا تكمن في بيانات الشجب، بل تبدأ من بناء هوية سياسية عربية حديثة، قائمة على المصالح المشتركة والعدالة، لا على الولاءات الخارجية.
أما الشعوب العربية، فهي بريق الأمل. مظاهراتها وتبرعاتها وفعالياتها هي تعبير عن ذاكرة جماعية متمردة ترفض الإذلال، وتلفت النظر بأن فلسطين ليست مجرد سياسة، بل قضية وجود. لكنْ على هذه الشعوب أنْ تخوض مواجهة جادة مع أشباح التاريخ، وأن تكسر مرآة المُستعَمِر. عليها أنْ تعيد اختراع ذاتها، لا من خلال نظرة الغرب، بل "من خلال صوتها الخاص، وذاكرتها، وثقافتها" كما قال ادواد سعيد.
آنذاك فقط، ستتحول غزة من رمز لعجز الأمة إلى منارة لنهضتها. ومن جرح ينزف في خاصرتنا، إلى رحم يلد فجرًا جديدًا للسيادة والكرامة والوحدة الحقيقية.

