تمر الذكرى الثامنة والثلاثون لانطلاقة حركة حماس في وقت يتم فيه تعرية المشروع الصهيوني على امتداد الجغرافيا والوعي العالمي معاً، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، دخلت الحركة مواجهة عسكرية غير تقليدية، وأطلقت ما يمكن توصيفه بـزلزال الاشتباك الشامل؛ اشتباك أعاد تعريف قواعد الردع، ونسف معادلات التطبيع، وفرض على الاحتلال حرب إبادة طويلة المدى بوصفها خياراً انتقامياً.
دخل الاحتلال هذه الحرب وهو يرفع شعار "إنهاء حماس" وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية والاجتماعية، مستنداً إلى فائض القوة والتواطؤ الدولي وصمت النظام الرسمي العربي، غير أن مسار الحرب الممتد على عامين من المجازر والتدمير المنهجي، كشف تحوّل الإبادة ذاتها إلى رافعة تَجَذّر مقاوم؛ إذ لم تنكسر الحركة، ولم تتآكل شرعيتها الشعبية، وأعادت إنتاج حضورها داخل الوعي الفلسطيني بوصفها رأس الحربة في معركة الوجود لا مجرد فصيل مسلح.
في هذا السياق، يُقرأ تجذّر حماس بوصفه نتاج سياسي لتماهي المقاومة مع شروط البقاء، وتموضعها الصلب عند مطالب الشعب، والتي كان أهمها وقف الحرب، وإنهاء الإبادة، وعودة النازحين، وكسر الحصار، هكذا تحوّلت الحركة من تنظيم يُراد استئصاله إلى معادلة يصعب تجاوزها في أي تصور لمستقبل فلسطين.
الانطلاقة كفعل تأسيسي وحدث تاريخي
جاءت انطلاقة حركة حماس عام 1987 في لحظة انسداد تاريخي عاشها المشروع الوطني الفلسطيني آنذاك، ففي زمن كانت فيه الخيارات السياسية تتآكل بين رهانات التسوية وأوهام الاعتراف، جاءت حماس لتملأ فراغ المعنى قبل فراغ التنظيم، مقدِّمة المقاومة كـصيغة وجودية مفتوحة في مواجهة مشروع إحتلالي لا يقبل الشراكة ولا التسويات المؤجلة.
سياسياً، مثّلت الانطلاقة استجابة لفشل النخبة التقليدية في تحويل التضحيات إلى إنجازات سيادية، ولعجز الخطاب الرسمي عن حماية الحق الفلسطيني من التدويل المُفرِّغ والاحتواء الإقليمي، هنا لم تطرح حماس نفسها بديلاً فصائلياً بقدر ما صاغت معادلة اشتباك مستدام، بمقاومة متجذّرة في المجتمع، غير منفصلة عن نبضه، ولا خاضعة لإيقاع اللحظة أو موازين القوى المتقلّبة.
ومنذ بداياتها أسّست الحركة لمفهوم المقاومة كخيار؛ خيار لا يُستدعى عند الحاجة ولا يُجمَّد تحت الضغط، خيار يُدار بوصفه مساراً طويل النفس، قابلاً للتكيّف دون التفريط بالجوهر، لذلك ورغم العواصف الإقليمية، من اتفاقات التسوية إلى موجات التطبيع، حافظت حماس على سرديتها الأصلية دون أن تتحوّل إلى خطاب جامد أو شعاراتي، وأعادت إنتاجها بما يمكن وصفه بـالمرونة الصلبة.
7 أكتوبر تحوّل في معادلة المواجهة
شكّل السابع من أكتوبر لحظة انكسار في الوعي الصهيوني قبل أن يكون اختراقاً ميدانياً، في تلك اللحظة تهاوى وهم التفوّق المطلق الذي راكمه الاحتلال عبر التكنولوجيا والأمن المركّب، وانكشفت هشاشة المنظومة التي طالما قدّمت نفسها باعتبارها كياناً محصّناً خارج إمكانية الاختراق، ومثّل حدث الصدمة العسكرية بالصدمة السردية التي أصابت بنية الردع في عمقها، وكسرت احتكار الاحتلال لتعريف القوة ومعناها.
سياسياً، أعاد 7 أكتوبر نقل المواجهة من حالة إدارة نزاع مُفرَّغة من مضمونها التحريري، إلى اشتباك وجودي مفتوح، لا يقبل التهدئة ولا التسويات، وهنا لم تعد المقاومة تفعل لتعديل الشروط، إنّما لتقويضها، ولم يعد الاحتلال قادراً على ضبط الإيقاع أو التحكم في سقف التداعيات، وبهذا تحوّلت المبادرة مِن يد مَن يملك فائض القوة إلى من يملك جرأة كسر الإطار.
أما على مستوى الإقليم، فقد مثّل الحدث زلزال التطبيع المؤجَّل؛ إذ تعطّلت مسارات كانت تُدار بهدوء في الغرف الخلفية، وتكشّف هشاشتها أمام صورة المقاومة وهي تعيد فلسطين إلى مركز المشهد، فلم يعد التطبيع قابلاً للتسويق بوصفه خيار استقرار، بعدما انفضحت كلفته الأخلاقية والسياسية، وتحوّل إلى عبء على أنظمته بدل أن يكون مكسباً استراتيجياً.
دولياً، أربك 7 أكتوبر الحسابات الكبرى، وكشف محدودية الرهان على احتواء المقاومة أو ترويضها، فالمواجهة التي أُريد لها أن تكون سريعة وحاسمة، انزلقت إلى مسار طويل ومكلف، أعاد طرح أسئلة الشرعية والقوة والقدرة على فرض الوقائع، هكذا تحوّل الحدث وأعادت تشكيل موازين الفعل، وفتحت الباب أمام مرحلة لا تشبه ما قبلها.
حرب الإبادة؛ حين فشل الحسم وانقلب السيف على حامله
دخل الاحتلال حرب الإبادة وهو يعلن أهدافاً كبرى تتجاوز الردّ العسكري إلى إعادة هندسة الواقع الفلسطيني بالقوة، من إسقاط حماس بوصفها عنواناً للمقاومة، من تفكيك بيئتها الحاضنة، وفرض استسلام سياسي يُعاد تدويره إقليمياً تحت مسمّيات اليوم التالي، غير أن ما جرى على الأرض كشف سريعاً فجوة قاتلة بين الأهداف المعلنة وأدوات تنفيذها، وبين فائض التدمير وغياب القدرة على إنتاج نصر حاسم.
راهَن الاحتلال على الإبادة، فوسّع دائرة القتل والتجويع والتهجير ظنّاً أن المجتمع المنهك سينقلب على مقاومته، لكن الإبادة تحوّلت إلى ارتداد استراتيجي؛ إذ عجزت القوة العسكرية، التي بلغت وحشيتها الذروة، عن اقتلاع فكرة تشكّلت في الوعي بوصفها شرط بقاء، وهنا اصطدمت آلة الحرب بـحدود القوة، فهي تستطيع التدمير، لكنها تعجز عن الحسم.
في المقابل، أظهرت حماس صلابة قدرتها على الاستمرار تحت النار، وإدارة الاشتباك كمسار طويل لا كمعركة فاصلة، فلم تنهَر المنظومة، ولم يتفكك القرار، وأعادت الحركة توزيع أثقالها داخل الميدان، محوِّلة الاستنزاف إلى أداة عكسية تُرهق الاحتلال أكثر مما تُرهقها.
أما الرهان الأخطر، كسر الإرادة الشعبية، فقد سقط أمام واقع مغاير؛ إذ لم تنفصل البيئة عن مقاومتها، بالعكس فقد تبلورت معادلة التماسك تحت الإبادة، حيث امتزج الصمود بالموقف، هكذا انتهت الحرب دون حسم، وانقلب السيف على حامله، ليخرج الاحتلال مثقلاً بالدم والفضيحة والعجز، فيما خرجت المقاومة جريحة لكنها باقية.
من الاستنزاف إلى التجذّر
ما كان يُراد له أن يكون استنزافاً مميتاً للمقاومة، تحوّل تدريجياً إلى مسار تجذّر واعٍ داخل الوعي الفلسطيني، فالتضحيات الهائلة، رغم قسوتها، أعادت صياغة الشرعية على أسس مختلفة؛ شرعية لا تُستمد من الاعتراف الخارجي ولا من ميزان القوة، شرعية قادرة على تمثيل الألم وتحويله إلى موقف.
الالتفاف الشعبي الذي تشكّل خلال حرب الإبادة كان اصطفافاً مدروساً أدرك أن كلفة التراجع أفدح من كلفة الصمود، وأن الرهان على تفكيك المقاومة يعني فتح الباب واسعاً أمام تصفية القضية، وهنا تبلور مفهوم التجذّر بعد الإبادة؛ وتحولت حماس، في هذا السياق، من فاعل تنظيمي إلى عنوان كرامة وطنية، يُقاس حضوره بقدرته على الثبات.
حماس ومعادلة الشعب، حين تتقدّم المطالب الوطنية على الحسابات العسكرية
في ذروة النزف، أعادت حماس ترتيب موقعها داخل المعادلة الوطنية، فاختارت التموضع عند جوهر المطالب الشعبية، وليس عند إغراءات المكاسب العسكرية السريعة، من وقف الحرب، عودة النازحين، وكسر معادلة التجويع عبر إدخال الغذاء والمساعدات؛ هذه كانت عناوين لاشتراطات سيادية للبقاء، أكدت أن المقاومة لا تفاوض تحت الإبادة ولا تقايض الحياة بالملفات.
أما تأجيل ملف الأسرى، فقد حمل دلالة سياسية عميقة، إذ أعاد ضبط بوصلة الأولويات الوطنية، وقدّم حماية الإنسان الفلسطيني على أي إنجاز رمزي أو تفاوضي، وبهذا السلوك كسرت الحركة الصورة النمطية التي تحصر المقاومة في بعدها العسكري، وقدّمت نموذجاً لمقاومة تدير الاشتباك بعقل المجتمع، مثبتة أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على تمثيل الشعب وهو ينزف دون أن ينكسر
ما بعد الذكرى الثامنة والثلاثين، حماس في المشهد الفلسطيني والإقليمي
بعد ثمانية وثلاثين عاماً على الانطلاقة، تحوّلت حماس إلى نقطة ارتكاز لا يمكن تجاوزها في أي مقاربة فلسطينية أو إقليمية للمرحلة المقبلة، فلم يتغيّر موقع الحركة لأن ميزان القوة مال لصالحها، إنّما لأن محاولات اقتلاعها فشلت، ولأن الإبادة لم تُنتج بديلاً مقنعاً ولا مشروعاً قادراً على الحلول محلها، وبهذا أعادت الحرب ترسيم المعادلة.
إقليمياً، باتت الحركة اختباراً دائماً للمشاريع المنافسة؛ فكل مسار لا يشتبك مع جوهر القضية، ولا يضع الاحتلال في موقع المساءلة، سرعان ما ينكشف عجزه أمام واقع فرضته المقاومة بالصمود، فقد أصبحت حماس عامل إرباك لمنظومات اعتادت إدارة الملف الفلسطيني بلا كلفة.
وفي المقابل، تطرح المرحلة المقبلة أسئلة ثقيلة لا تحتمل الشعارات، كيف تُعاد بناء غزة دون تفريغ صمودها من مضمونه؟ كيف تُستعاد وحدة الساحة الفلسطينية دون إعادة إنتاج الانقسام بصيغ أكثر نعومة؟ وكيف يُدار اشتباك طويل مع مشروع لم يسقط بعد، لكنه فقد قدرته على الحسم؟ هنا لا تبدو حماس معفاة من الاختبار، لكنها تدخل هذا الطور وقد انتقلت من موقع الدفاع عن الوجود إلى موقع الفاعل في رسم المعادلة.
في الذكرى الثامنة والثلاثين لانطلاقة حماس، يُقاس الحضور بقدرة الحركة على البقاء في قلب المعنى الفلسطيني رغم الإبادة، من الانطلاقة إلى 7 أكتوبر، ومن المجازر إلى التجذّر، أثبتت التجربة أن المقاومة التي تُراهن على الشعب لا تُهزم، وأن الإبادة، مهما بلغت وحشيتها، تفشل حين تواجه وعياً يرفض الاقتلاع، هكذا لا تنتهي الذكرى كتاريخ، إنّما تُفتَح كمرحلة، عنوانها أن فلسطين لا تزال تُكتب بالفعل المقاوم.

