فلسطين أون لاين

تقرير طفلتان تنتظران أبًا لا تعرفانه... قصة اختفاء الشاب المصري داخل مجمَّع الشفاء

...
قصة الشاب المفقود مصطفى المصري
غزة/ جمال غيث:

في أحد الأزقة الضيقة بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، تعيش عائلة المصري منذ أكثر من عشرين شهرًا على وقع الانتظار.

انتظار ثقيل ينهش قلوب أفرادها، وخاصة قلب الأب عوني المصري، الذي يعلّق صورة ابنه البكر "مصطفى" على الجدار، ويجلس أمامها لساعات، كمن يحدّق في باب لا يُفتح.

"مصطفى" الشاب البالغ من العمر 27 عامًا، لم يكن غائبًا يومًا عن العائلة كما هو الآن، بل كان يرقد على سرير في قسم الجراحة داخل مجمع الشفاء الطبي، يتلقى العلاج بعد إصابته بتهتّك في الرأس جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلهم في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023. يومها، شكّلت الشظايا المبعثرة في جمجمته بداية رحلة طويلة من الألم، انتهت بفقدانه دون أثر.

يستعيد الأب المشهد الأول وكأنه يحدث الآن، يقول وهو يحاول ترتيب كلماته: "كان مصطفى يمشي رغم إصابته، يقاوم الدوار والغثيان، لكن حالته تدهورت، وفي 11 مارس/آذار 2024 عاد إلى المستشفى بعدما خسر الكثير من وزنه ولم يعد يقوى على الوقوف، فقرر الأطباء إبقاءه لإزالة شظايا جديدة من رأسه".

كان عوني يزور ابنه يوميًا، يحمل معه أملًا صغيرًا بأن تلتئم الجراح، وأن يعود "مصطفى" إلى حضن طفلتيه، لكن الرياح جاءت بما لا يشتهي.

اقتحام ثانٍ

في 17 مارس/آذار 2024، بدأت قوات الاحتلال اقتحامها الثاني لمجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، فحاصرت المكان، وقطعت الكهرباء، ومنعت الحركة عن المرضى والجرحى والطواقم الطبية.

يقول الأب لصحيفة "فلسطين"، والقلق يتسرّب مع أنفاسه: "مصطفى كان في قسم الجراحة، يومها دخل الرعب قلوبنا، فالأخبار كانت تتحدث عن إعدامات ميدانية داخل المجمع، واعتقالات جماعية للجرحى والأطباء".

ويضيف: "كنا نتابع الأخبار على الهاتف، وكلما ظهر خبر عن قافلة جرى تهجيرها نحو جنوب القطاع، ظننا أن مصطفى ربما يكون بينهم، وكلما صدرت قائمة شهداء جديدة كنت أبحث عن اسمه".

ويكمل بحرقة: "قلنا: ربما خرج مع الجرحى، ربما نُقل إلى مستشفى آخر، ربما أخذه الصليب الأحمر… لكن لا اسم، ولا صورة، ولا معلومة واحدة".

بحث بين الشهداء

بعد انسحاب قوات الاحتلال من مجمع الشفاء، خرج الأب في رحلة بحث قاسية: اتجه إلى أقسام المستشفى المدمرة، إلى الساحات التي تحولت إلى ركام، ثم إلى المقابر الجماعية التي حُفرت على عجل.

يروي تلك اللحظات قائلًا: "بحثت بين الجثامين كما لو كنت أبحث عن قلبي، رفعت الأغطية واحدًا تلو الآخر، لم أكن أريد أن أراه شهيدًا، لكنني أردت فقط أن أعثر عليه… أن أعرف".

لم يكن "مصطفى" بين الشهداء، ولا بين الجرحى، ولا ضمن أسماء المعتقلين الذين تمكنت المؤسسات الحقوقية من توثيقهم. توسعت دائرة البحث لتصل إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومؤسسات حقوقية في غزة والضفة، لكن الجواب كان واحدًا، يقول الأب: "لا توجد أي معلومة".

طفلتان تنتظران

في منزل العائلة، هناك من ينتظر "مصطفى" كل ليلة. طفلته الكبرى مريم تسأل دائمًا: "بابا وين؟"، أما الصغرى تلاوة، التي وُلدت في 27 سبتمبر/أيلول 2023، فلم ترَ والدها يومًا إلا في صورة على هاتف أمها.

وُلدت تلاوة أثناء نزوح العائلة جنوبًا، وسط القصف والجوع والخوف، بينما كان والدها يصارع الموت في غرفة عمليات الشفاء.

يقول الجد وهو يقلب صورة ابنه بين أصابعه: "بناته يسألن عنه كل يوم. مريم تقول إنها تريد أن تنام على صدره كما كانت تفعل، وتلاوة لا تعرف من هو والدها أصلًا، حين ترى صورته تضحك وكأنها تنتظر أن يخرج منها".

باب لم يُطرق

عوني المصري، الذي يعيل أسرة من عشرة أفراد، لم يترك بابًا إلا وطرقه. حمل ملف ابنه، وتنقل بين المؤسسات الحقوقية، واتصل مرارًا بالصليب الأحمر، وكتب اسمه في قوائم وزارة الصحة، وعلى صفحات توثيق المفقودين على مواقع التواصل، وعلى لوائح الباحثين عن ذويهم… لكن دون جدوى.

يقول والدموع تنساب من عينيه: "أريد فقط أن أعرف… هل هو حي؟ هل هو معتقل؟ هل استشهد؟ أريد أن أكفّنه إن كان شهيدًا، وأن أحتضنه إن كان حيًا".

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترتكب قوات الاحتلال مجازر متواصلة في قطاع غزة، راح ضحيتها أكثر من 70,365 شهيدًا و171,058 جريحًا، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

وفي هذا العدد الهائل من الضحايا، لا يزال آلاف المفقودين مجهولي المصير: هل هم تحت الأنقاض؟ أم في المعتقلات؟ أم في عداد الشهداء؟

وبين ليلة وأخرى، يقف الأب عند باب منزله، يتخيّل أن "مصطفى" سيدخل بخطواته المألوفة، يخلع حذاءه عند العتبة، ويقول بصوت مبحوح: "رجعت يا أبي"، لكن الباب يظل صامتًا… مثل السماء.

المصدر / فلسطين أون لاين