لم تكن الأمطار التي هطلت على غزة خلال المنخفض الجوي الأخير حدثًا موسميًا عابرًا، بل كانت امتحانًا قاسيًا لنازحين يعيشون منذ عامين داخل خيام مهترئة لم تعد قادرة على حمايتهم من برد الشتاء، ولا من حرارة الصيف.
ومع الدمار الواسع الذي طال نحو 70% من منازل القطاع خلال الحرب، وتهجير أكثر من 1.9 مليون إنسان، وفق تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أصبح الشتاء بالنسبة لكثيرين فصلًا من الخوف لا من المطر.
ووفق تقرير الوضع الإنساني الصادر عن "OCHA"، أدت الأمطار الغزيرة في المنخفض الأخير إلى فيضانات غمرت آلاف الخيام داخل مناطق النزوح، في ظل غياب شبكات صرف قادرة على التعامل حتى مع كميات محدودة من المياه. ومع تدمير البنية التحتية وشبكات الطرق والصرف الصحي، تحولت الشوارع إلى سيول تجرف الرمال وتنحدر نحو المخيمات، لتغمر الأراضي وتدخل إلى مساحات السكن المؤقت.
وتشير تقديرات “Shelter Cluster”، التي تديرها الجمعية النرويجية للاجئين (NRC)، إلى أن 77% من احتياجات السكن الشتوي للنازحين لم تُلبَّ حتى الآن، ما يعني أن نحو 945 ألف نازح يدخلون فصل الشتاء بلا حماية كافية من المطر أو البرد، بينما يعيش أكثر من 450 ألفًا في خيام غير مقاومة للماء.
المطر تهديد
في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، كانت شادية قاسم، النازحة من بيت لاهيا، تحاول منذ ساعات الصباح إنقاذ خيمتها من الانهيار مع اشتداد المطر. فقد نصبت خيمتها على منحدر ترابي، ومع بدء السيول بالاندفاع، غمرت أرضيتها بالكامل وبللت فراشها وملابس أطفالها التي لم تجد مكانًا تحفظها فيه سوى داخل أكياس دقيق فارغة.
ركضت شادية وزوجها وهما يحاولان إبعاد الأطفال عن الماء، بينما امتزجت دموعها بحبات المطر وهي ترفع الأغطية عن الأرض بحثًا عن بقعة جافة. وكان زوجها يحاول بيدين مرتجفتين دفع المياه المتجمعة فوق الشادر الممزق الذي يغطي الخيمة، لكن دون جدوى.
تقول شادية: "مجرد سماعي أن هناك منخفضًا يجعلني أرتجف. كل ليلة مطيرة نعيشها كأنها معركة جديدة. أغطيتنا مبللة، وفراشنا غارق… ولا نملك سوى الانتظار."
ووفق بيانات "Shelter Cluster"، فإن ما لا يقل عن 60% من الخيام في غزة غير مقاومة للماء، ما يجعلها عرضة للغرق بمجرد بدء هطول الأمطار.
المرض والبرد
إلى الجنوب، في مناطق النزوح بخان يونس، كانت عائشة بهلول تمسك أطراف الشادر فوق خيمتها بينما تتسرب المياه من أعلاه. أقامت عائشة خيمتها من أخشاب وقطع نايلون بعد نزوحها من رفح، لكنها تتحول كل شتاء إلى معركة يشارك فيها جميع أفراد الأسرة.
وقفت عائشة مع ابنتيها وزوجها يدفعون تجمعات المياه المتراكمة فوق السقف خوفًا من انهياره. وما إن تبدأ الأرضية بالغرق، حتى يهرعوا لإخلاء الفرش والأغطية نحو خيمة الجيران. وفي كل منخفض، تبيت العائلة لدى الجيران بانتظار أن تجف الخيمة.
تقول عائشة، التي تعاني مرضًا في القلب: "البلل يقتلني. إذا ابتلت الخيمة أمرض فورًا. كل ما أريده خيمة تحميني من المطر. لست أطلب الكثير."
وتفيد تقديرات منظمات الرعاية الطبية العاملة في غزة بأن نحو 40% من النازحين يعانون أمراضًا مزمنة، ما يجعلهم أكثر عرضة لمضاعفات البرد والرطوبة داخل الخيام المتسربة.
عودة لم تصمد
في حي التفاح شرق غزة، عادت أم طارق الشرفا قبل يومين فقط إلى غرفة صغيرة أعاد زوجها ترميمها من ركام منزلهم المدمر، بعد عامين من التنقل بين بيوت الأقارب. غطوا الجدران المنهارة بالشوادر، واعتقدت أن بإمكانها أخيرًا أن تنعم بشيء من الاستقرار، لكن المنخفض الجوي حطّم تلك الآمال سريعًا.
مع اشتداد الرياح، تمزقت الشوادر واندفعت المياه إلى الداخل، لتغرق الغرفة في دقائق.
تقول أم طارق لـ "فلسطين أون لاين": "كنت أظن أن العودة لبيتي ستنقذني من النزوح، لكن أول منخفض خلع الشوادر وجعلني في مهب الريح مرة أخرى."
كانت أسرتها تجمع الملابس المبتلة استعدادًا للذهاب إلى بيت شقيقتها، بينما يبذل زوجها وابنها جهدهم لتثبيت ما تبقى من الشوادر. وتضيف: "لم أحصل على خيمة ولا شوادر جديدة. أحتاج فقط شيئًا أحتمي به… لا يمكن أن نبقى بلا مأوى أكثر."
وبحسب تقرير "OCHA"، فإن أكثر من 70 ألف منزل دُمّر بالكامل، فيما تضرر أكثر من 180 ألف منزل جزئيًا، ما دفع عشرات آلاف العائلات للعيش فوق الركام داخل ملاجئ بدائية لا تقاوم المطر.
تهديد مفتوح
تحذر المنظمات الإنسانية من أن غزة مقبلة على فصل شتاء هو الأخطر منذ بدء الحرب. فوفق تقييمات "Shelter Cluster"، يتجاوز العجز في مواد الإيواء 85%، فيما ما تزال الخيام المقاومة للماء والكرفانات خارج متناول معظم العائلات نتيجة القيود على إدخال مواد البناء والإيواء.
وبينما تنتظر عشرات آلاف العائلات حلولًا عاجلة، يعتمد السكان على بدائل فردية لا تصمد أمام أول موجة ريح: شوادر ممزقة، وأخشاب مهترئة، وأكياس نايلون تحاول صد المطر دون نجاح.
ومع كل منخفض جديد، يُترك آلاف الأطفال والنساء والمرضى في مواجهة مفتوحة مع الطقس، بلا حماية، وبلا سقف، وبلا ضمان أن تكون الليلة القادمة أكثر أمانًا.

