{*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِك الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ* }البقرة205
فجر ضباب كثيف ملأ صباحنا غير المشرق، يختنق بين الدخان الأسود والركام المشتعل، وكأن غزة كلها تتحرك في كابوس لا ينتهي. القذائف تنهال بلا هوادة منذ الليلة الماضية، فتسحق كل حجر وكل نافذة، والأرض ترتعش تحت وقع الدبابات، كما لو أن كل الشوارع صارت أوتاراً موسيقية يعزف عليها الموت. باص يحمل علم الأمم المتحدة “الأونروا” حاول العبور، ولم يمضِ لحظات حتى ارتقته قذيفة، فاشتعلت النار في كل ما فيه، كأن السماء نفسها أرسلت جحيمها ليمحو بصيص الأمل الأخير.
على زاوية يمين الكوة، كنا نراقب شابين ينحدران من أعلى المنطقة إلى أدناها، في محاولة للوصول إلى سيارتهما المخصصة لتوزيع المياه، لعلهما ينقذانها من بين أنياب الحصار. اختفيا خلف جدار متهالك، تبادلا نظرة خاطفة كهمسٍ في عاصفة، ثم هرولا، لتبدأ رشقات نارية لاذعة من “كواد كابتر” كالأفاعي النارية، تقطع طريقهما بلا رحمة. على زاوية الشمال، تكور الشابان، أحدهما ساجد، مكث في موقعه أسابيع، ثابتاً كجبل أمام العواصف. بجوارهما سيارة محطمة، والدماء تتخضب منهما، كأنها لوحتا نار في مشهد جحيمي، إلا أن الساجد ظل محتفظاً بهيئته، ربما ليهدأ قلبه قبل أن نحاول انتشال هذه الأجساد الطاهرة إلى مثواها الأخير. {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران169). لم يتعرف عليهم أحد، لكن الصورة، هذه الشهادة الحية، هي بريد إلى قلوب أهلهم الممزقة.
من بعيد، على الطريق الأعلى، ظهر شابان آخران، مجاهدان ينسحبان بعد أداء واجبهما، كظلّيْن يختفيان بين الرماد والدخان، لاحقتهما الكواد كابتر، وارتقيا تحت سطوة النيران. بعد يومين، نقلت الأخبار مقتل خمسة من عصابات العدوان ومرتزقته في تلك المنطقة، إثخان متواصل من الضربات المبرمجة، حيث تتوهج ألسنة النيران من الآليات المحترقة، ويتكرر صدى القنص والتدمير، ليس كحديث مرسل، بل كحقائق مسجلة بالصور والشهود.
حزيناً كان يومنا منذ طلوع الفجر؛ آليات الإجرام تتقاطع حول كهفنا، تنشر الرعب في قلوب الآمنين، وتزرع في الأرض النار كما تزرع الرياح البذور. خرج أخي وأهله تحت جنح الخطر، يحاولون الوصول إلى شطر آمن، كما فعل معظم من حولهم، ففي غزة لم يعد هناك مكان آمن. بعضهم لاحق، ولم يعد حيث نادته تربه. وفي الزاوية الشمالية الغربية، تدافع جيراننا، يرفعون رايات بيضاء بحثاً عن ممر آمن، فجأة سقطت قذيفة غادرة بينهم، فتجمّعوا حول مصابهم، محاولين العودة من حيث أتوا.
كان عليهم دفن شهيدتهم في ممر البيت، كم كانت محظوظة أن وجدت من يدفنها. أما الصبي الصغير، حفيدها الذي رافقها في رحلتها الأخيرة في دنيا الفناء، فقد اختفى، وبعد أسابيع وجد في الجنوب، مختفياً مع عائلة نازحة، وسط اختلاط الوقائع والأشخاص. جارهم المقابل دُهم بيته، وقتلوا ابنه في فراشه، ثم اقتادوا الأب المكلوم وولده الثاني، إلى الزاوية المرصودة من كوّتنا.
أجلسوا الشاب قرفصاء على الدرج المؤدي للمسجد المحترق، وأفرغوا في رأسه ست رصاصات. تكور جثمانه لأسابيع، وكأن الزمن توقف عند هذه اللحظة الرهيبة، وكان علينا صرف أنظار الأحفاد عن هذا المشهد المروع، فلا يحدث أمامهم. أبصار الأطفال الحادة كانت منصرفة تلقاء الزاوية الغربية، حيث يكافح جار آخر للخروج بأبنائه الصغار بحثاً عن مأمنٍ سراب. القذيفة تقطع الصبية أمام والدهم أشلاء، وخرج قلب الأم باكياً مولولاً، تستنجد لإنقاذ صغارها، تكومت هي الأخرى على زاوية الشارع، محاولة حماية ما تبقى من كرامتهم وسط هذا الخراب.
من خلف الركام، كان صوت الدبابات يشبه زئير الوحوش في غابة من الحمم، والقذائف تتساقط كالمطر الأسود على المدينة، تتطاير أعمدة الدخان كأفاعٍ ملتوية، تُغلق كل منفذ للحياة. حتى الصوت بدا كأنه يقتل الصمت نفسه، فيما رماد المباني يختلط بدماء الأبرياء، وصرخات الجرحى تهز القلوب كطبول حربٍ صاخبة.
وفي لحظة هدوءٍ غريبة بين القصف، يتسلل شعاع الشمس الخافت عبر الكوة، فيلمع على وجوهنا المغبرة، كرسالة خفية من السماء تقول: “الصمود حياة”، تذكّرنا أن غزة، رغم الحصار والدمار، لا تزال تتنفس، وأن روح المقاومة متجذرة في كل حجر، في كل شارع، في كل قلب صامد لا ينحني.

