ثمة أماكن تسير فيها لمدةٍ طويلة دون أن تلمحَ عيناك أي شيءٍ فيها، رغم انها قد تكون كبيرة المساحة، ولا تلفت انتباهك ولا تترك فيك أي أثر، كأنك لم تمر بها، نظراَ لانعدام المؤثرات السمعية والبصرية، بينما أماكن قد تكون صغيرة، تُبقي حواسك مشدودة وفعالة، نظراً لكثرة حركاتها وزخم المؤثرات السمعية والبصرية، غزة من الصنف الثاني، أتعلمون لماذا؟ دعوني أخبركم.
غزة منذ العدوان الإسرائيلي اكتوبر 2023 أصبحت تعيش حالة طوارئ على مدار الساعة، فالناس تركوا بيوتهم رغماً عنهم وسكنوا في مخيمات النزوح، ولو أردتَ القيام بجولة في أحد المخيمات، ستعجز عن تدوين الأحداث في عقلك؛ لأنها تتزاحم ولا يمكن لأي مشهدٍ أن يتكرر مرتين.
منذ الصباح الباكر يستيقظ الناس لصلاة الفجر، ثم تبدأ طوابير الحياة، ويبدأ الشهود على الظلم، بصناعة المشاهد، فهذا مشهد أطفال ينتظرون سيارة المياه الحلوة ثم يركضون خلفها، ولكل طفلٍ حكاية، أغلبهم حفاة، ناموا بلا عشاء، لم يأخذوا حظهم في النوم، ومشهد الأم تُجهز العجين لصناعة الخبز، ومشهد فتيات في مقتبل العمر يذهبن بالعجين إلى المخبز الشعبي لتجهز الخبر، ومشهد عدة سيدات يبكين أقاربهن الشهداء، ومشهد رجال يركبون التكتك أو عربة الحمار استعداد لدفن الشهيد، ومشهد مُبادر يحضر المساعدات لتوزيعها على الناس، وهنا طابور أطفال ينتظرون الحصول على المكمل الغذائي، ومشهد رجل يعيد بناء خيمته استعدادا لفصل الشتاء أو الصيف، وذلك طفل يجمع الخشب والحطب والنايلون والأوراق من الشارع حتى تتمكن أمه من اشعال النار وصناعة الطعام، ومشهد كبار السن يجلسون في أي مكان بلا شمس، يتحدثون ويُعبِرون عن ألمهم وأملهم، ومشهد يجمع مصابين يواسون أنفسهم مما ألمَ بهم من ألم الإصابة وبتر الأطراف وانعدام الدواء، ومشهد شاب يُعلّم القرآن لأطفال المخيم، وشابة للفتيات، وهذا رجل ينظف الشارع من مخلفات الصرف الصحي التي تسبب الأمراض للجميع، ومشهد عربة يجرها حمار تنقل جرحى من مكان الاستهداف إلى المشفى، ومشهد رجل يشتري ما تيسر من طعام بما تيسر له من نقود، ومشهد أطفال يعبئون أوعيتهم من بئر مياه مالحة تم حفره للتغلب على أزمة نقص المياه، والمشاهد أكثر من أن نحصيها في مقال واحد.
أعلمتم لماذا نقول إن غزة من الصنف الثاني، حيث الحركة لا تتوقف ليلاً أو نهاراً، صيفاً أو شتاءً، حيث إرادة البقاء تغلب ارادة الفناء، حتى في أحلك الظروف.
نسأل الله الفرج العاجل والعوض الجميل.

