فلسطين أون لاين

​في "يوم التقاعد".. الصدمة سيدة الموقف والأحلام تتبخر

...
غزة - ياسمين النعيزي

تجمعوا في مكان واحد لإتمام مهمّة لم يودّوا يومًا القيام بها, أقدموا عليها مرغمين، مدفوعين باتجاه الفراغ المُعبأ بالخوف من الآتي, وكلّهم خشية على أحلامهم التي قد تسرقها ورقة يوقعون عليها.

مراسلة "فلسطين" زارت مقرّ هيئة التأمين والمعاشات، والتقت بعض من شملهم قرار التقاعد المبكر، وقد توجّهوا لمقر الهيئة لإتمام إجراءات تقاعدهم، هناك كانوا يسجلون بياناتهم على أوراق طلب التقاعد المبكر الذي فُرض على فئات معينة من العسكريين في قطاع غزة, ينتقلون هائمين بين كل ورقة وأخرى, وأحدهم لشدة ما يمرّ به، لم يكتفِ باستبدال ورقة بياناته مرة بل تبعها بأخرى تلو أخرى, وآخر أتى إليه صديقه على عجل ليسأله "شو كاتب سبب الطلب؟, امسح واكتب أمر رئاسي..", وآخر رفض الحديث معنا واكتفى بقوله: "الشكوى لغير الله مذلة, حسبي الله ونعم الوكيل".

أملٌ طار

"حياتنا مُحيّرة, في البداية أبهرتنا بسماعنا لخبر إتمام المصالحة, وجعلتنا نرتاد دروبها فرحًا بكل خبر متعلق بها, ثم فاجأتنا بالصدمات, كأنها كانت تحتال علينا بمنحنا ما يؤملنا فقط بتحقيق أحلامنا, حتى أسرفنا في الطمأنينة, الآن أشعر أن الحياة لا تكترث بي أصلًا".

بهذه الكلمات بدأ "حاتم أبو موسى" حديثه لـ"فلسطين"، حين رأيته يحادث صديقه أبو حجاج وعلامات الأسى بادية على وجههما, وعندما طلبت منه مشاركتي بالحديث عن تجربته في يومه القاسي الذي ينهي فيه إجراءات التقاعد المبكّر، رحّب بسرعة وقال: "آه بحكيلك عن هاليوم، والله مخنوق، ونفسي أفضض ونفسي يسمعوا".

قال: "كنت أنتظر يوم الإعلان عن المصالحة منذ أحد عشر عامًا لكي أقدم أوراق شهادتي التي حصلت عليها لأحصل على ترقية, إذ من المفترض أن أحصل على رتبة ملازم أول, فيرتفع راتبي، ما يعني أن تزيد فرص تأمين مستقبلي ومستقبل أطفالي, لكنني فوجئت بفرض قانون التقاعد المبكر عليّ، وأنا ما زلت على عتبة الأربعين من عمري".

يُقال: إن "كل كثير في موطنه رخيص زهيد، لكنه يغلو إذا انتقل", ووفقا لهذه القاعدة، اتخذ أبو موسى قرارا بالهجرة، إذ أوضح: "قررت مع صديقي الذي يشاركني نفس القصة، بعدما وقعنا أوراق إعدام مستقبلنا قبل قليل، أن نهاجر، ونترك الوطن الذي لطالما قدمنا له تضحيات كبيرة, فنحن الاثنان نعاني من إصابة بسبب مشاركتنا في التصدي للاحتلال في إحدى عمليات الاجتياح في مدينة الخليل التي كنت أعمل بها قبل مجيئي إلى القطاع".

مستقبلي لابني

أما بالنسبة للمقدم "أبو إيهاب الدهشان", فبدا مستسلمًا لأمره الواقع, وابتسم حين أجاب عن سبب قبوله ما يحصل: "وعدوني أن يأخذوا وظيفتي ليوظفوا الشباب, وأنا أقبل بأن يؤمّن أبنائي مستقبلهم على حسابي".

لدى الدهشان ابنان شابان في سن الزواج، وكما يقول هو لم يفعل لهما شيئًا لأجل مستقبلهما, لذلك يرى أنه يتعين على الحكومة أن تفي بوعودها وتمكن الشباب ليستطيعوا بناء أيامهم القادمة.

وأوضح: "أنا لا أريد أن يخيب ظني بالمصالحة، ولا أن أشعر أن حلولها علينا نقمة لا نعمة, لذلك أنا مفرط بالتفاؤل, لكنني صدقًا أخشى الصدمة، وأن تكون كل الوعود التي نسمع بها مجرد (حقنة بنج) لتخديرنا فقط".

انتزاع الوطن

بصوته المرتفع، وتعابير وجهه الحادة بسبب غضبه العارم، قال ماجد المدهون: "ما أجبرونا عليه هو إقصاء للمشروع الوطني بشكل كامل, وهم بذلك ينتزعون الوطن من قلوبنا, ونحن الذين ترعرعنا على حبه".

وأضاف: "أنا دائمًا كنت أحتفي بكلمة وطن, لكن حب الوطن قلّ في هذا اليوم الذي أركض فيه لإتمام إجراءات تقاعدي بينما لم أصل للسن القانوني له، في هذا اليوم نحن حُرمنا من حقوقنا المعيشية, ما يحصل لنا هو به بداية الفشل للمشروع الوطني".

وتابع: "وقت الإعلان عن التقاعد غير مناسب أبدًا، في ظل الأزمات المادية التي يعاني منها القطاع بشكل عام, فأوضاع الناس في القطاع لا تحتمل المزيد من السوء".

ووجّه كلامه لصديقه الذي يرافقه في إنهاء إجراءات تقاعدهما: "ذكرني ليش كنا نستنى المصالحة؟ مش عشان نرجع لوظيفتنا ونحسن مستوانا, ونبدأ نبني مستقبل أولادنا؟".