فلسطين أون لاين

احتلال غزة: بين الحسابات الإسرائيلية وتداعياتها

...
احتلال غزة: بين الحسابات الإسرائيلية وتداعياتها
د. باسم القاسم

لم يُعر بنيامين نتنياهو، ومعه أركان حكومته اليمينية المتطرفة، أي اهتمام للأصوات المطالِبة بإنهاء الحرب على قطاع غزة عبر تسوية تفاوضية تفضي إلى تبادل أسرى ووقف شامل للعدوان. بل استمر في نهجه المتعنت، مروجًا لضرورة تحقيق ما يسميه "النصر العسكري المطلق" ونزع سلاح غزة، باعتبار ذلك خطوة تمهيدية لدفع سكان القطاع إلى التهجير، سواء طوعًا أو قسرًا.

ورغم محاولاته شحن جمهوره اليميني الأكثر تطرفًا بخطاب مشبع بالنزعة التوراتية المسيحانية، وصولًا إلى ادعائه أنه يتحمل "المسؤولية الروحية" عن إقامة "إسرائيل الكبرى" التي تبدأ – في رؤيته – من احتلال غزة وفتح باب الاستيطان فيها؛ فإن حسابات الواقع تشير إلى أن تحقيق هذه الأهداف لن يكون بالسهولة التي يُصورها.

وقد برزت الخلافات بين المستويين السياسي والعسكري كواحدة من أبرز العوائق التي تحول دون تنفيذ مخطط الاحتلال. صحيح أن نتنياهو تمكن من فرض توجهاته على المؤسسة العسكرية، حيث أعلن رئيس الأركان إيال زامير قبل أيام عن انطلاق المرحلة الثانية من عملية "عربات جدعون" في غزة، مدّعيًا أن المرحلة الأولى أنجزت أهدافها عبر إضعاف قدرات حركة "حماس" وتكبيدها خسائر جسيمة، إلا أن العملية الجديدة لا تزال محفوفة بعقبات وتداعيات خطيرة سنناقشها في هذا المقال.

القيود العسكرية

أما على الصعيد العسكري، فإن المؤسسة الأمنية نفسها منقسمة. فقد عارض رئيس الأركان إيال زامير خيار احتلال مدينة غزة ومخيمات الوسط دفعة واحدة، مقترحًا بدلاً من ذلك استراتيجية تقوم على الحصار والاقتحامات الموضعية. دوافع زامير تنبع من مخاوف تتعلق بمصير الأسرى، فضلاً عن حالة الإنهاك التي تعانيها القوات جراء الحرب الممتدة منذ نحو عامين.

ويقدَّر أن احتلال مدينة غزة يتطلب نحو 200 ألف جندي، وهو رقم يصعب توفيره في ظل تراجع نسب الاستجابة بين قوات الاحتياط إلى حدود 60-70% فقط، مع تسجيل نسب رفض وصلت إلى 40% وفق تقارير صحفية إسرائيلية. يضاف إلى ذلك استمرار رفض الحريديم أداء الخدمة العسكرية، وهو ما يعمق الشرخ الاجتماعي والسياسي، ويضع الجيش أمام عجز في القوى البشرية قدّرته قيادة الأركان بنحو 12 ألف جندي.

وتتفاقم المشكلة مع استمرار استدعاء مئات آلاف الاحتياط منذ أكتوبر 2023، حيث يعيش الجنود وعائلاتهم حالة من الغموض والإرهاق، فيما تحذر أوساط سياسية من أن النزاع حول تجنيد الحريديم قد يشعل أزمة داخلية تصل إلى "حافة حرب أهلية"، بحسب تصريحات عضو الكنيست مئير بوروش.

إلى جانب ذلك، تواجه إسرائيل أزمة تسليح غير مسبوقة. فقد أعلنت ألمانيا، التي تعد ثاني أكبر مزود عسكري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وقف صادراتها من السلاح، بما يشمل أنظمة بحرية متطورة وغواصات. ومع تزايد دعوات دولية أخرى لتقييد بيع الأسلحة لإسرائيل بسبب المجازر في غزة، قد يجد الجيش نفسه في وضع حرج إذا ما اندلعت جبهات جديدة تتطلب إمدادات عاجلة.

التداعيات القانونية

على الصعيد القانوني، حذّرت المدعية العامة العسكرية، يفعات تومر يروشالمي، خلال مداولات مغلقة، من أن قرار "الكابينت" في 7 أغسطس 2025 بشأن احتلال كامل غزة ينطوي على مخاطر جسيمة. وأكدت أن تهجير مئات الآلاف من سكان غزة إلى منطقة محدودة سيؤدي إلى تصاعد غير مسبوق في الضغط الدولي، وقد يُفقد إسرائيل الشرعية التي منحتها بعض الدول لاستمرار الحرب حتى الآن.

كما أوقفت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف-ميارا، خطة "مديرية الهجرة" التي اقترحت إنشاء موقع إلكتروني لتشجيع الفلسطينيين على مغادرة غزة إلى "دولة ثالثة"، معتبرة أن هذه الخطوة تنتهك القوانين الدولية وتُفاقم الأزمات السياسية.

في السياق ذاته، كتب ميخائيل ميلشتاين في صحيفة يديعوت أحرونوت أن مثل هذه السياسات تُعزز الاعتقاد الدولي بأن إسرائيل باتت تتصرف بلا عقلانية، محذرًا من أن "تسونامي سياسي" يلوح في الأفق، يتمثل في تسارع الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة.

الأثمان الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية، بلغت تكلفة الحرب المستمرة حتى منتصف 2025 نحو 300 مليار شيكل (81 مليار دولار). وتشير تقديرات إلى أن احتلال غزة بالكامل سيكلف بين 120 و180 مليار شيكل (32 – 49 مليار دولار) سنويًا، ما يعني تحميل الموازنة أعباء غير مسبوقة. وارتفع العجز المالي إلى 4.5% من الناتج المحلي، فيما بلغ الدين الخارجي نحو 6%، مع مؤشرات على أن الأرقام مرشحة للتفاقم مع استمرار الحرب.

المحلل الاقتصادي حاغاي عميت أوضح في موقع ذي ماركر أن عبء الاحتلال يتوزع على شقين: الأول يتعلق بالتكلفة المباشرة للعملية العسكرية. فإذا كانت مرحلة "عربات جدعون" الأولى قد كلفت 25 مليار شيكل (6.7 مليار دولار) في شهرين، فإن السيطرة الكاملة على القطاع قد تضاعف هذا الرقم.

أما الشق الثاني فيتعلق بالنفقات طويلة الأمد، وعلى رأسها تمويل المساعدات الإنسانية لسكان غزة تحت الاحتلال، وما يرافقها من التزامات إضافية على الاقتصاد الإسرائيلي المتعثر.

كما أن استمرار تجنيد مئات آلاف الجنود الاحتياط يُبقي الاقتصاد في حالة تعبئة جزئية، مع ما يترتب على ذلك من تعطيل لسوق العمل وتراجع الإنتاجية وازدياد التكاليف الاجتماعية، سواء عبر التأمين الوطني أو دعم أسر المجندين.

الخلاصة

تُظهر عملية "عربات جدعون 2" أن مشروع احتلال غزة ليس خيارًا عسكريًا بحتًا، بل معادلة معقدة تتداخل فيها المخاطر القانونية، والانقسامات العسكرية، والأعباء الاقتصادية، والتداعيات السياسية الدولية. وبينما يروّج نتنياهو لـ"نصر مطلق"، فإن الوقائع تشير إلى أن الاحتلال قد يتحول إلى عبء استراتيجي يفاقم عزلة إسرائيل ويُسرّع من مسار الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. وبذلك يصبح السؤال المطروح: هل يقود نتنياهو إسرائيل نحو "إسرائيل الكبرى" التي يتحدث عنها، أم نحو أزمة كبرى قد تهدد بقاء مشروعه السياسي برمّته؟