﴿واخفِض جَناحَكَ لِلمُؤمِنين﴾ الحجر88
في قلب المحرقة، حيث تتكسر الأرواح تحت وطأة الجوع والنار، ما أحوجنا إلى قلب يشبه قلبه ﷺ، هينًا لينًا، لا يفقد هيبته، ولا ينسى خُلقه، يعيش للناس وبينهم، يربّت على الجراح ولا يزيدها نزفًا. في غزة، حيث يمشي الموت بين الأزقة، نحتاج من يتلطّف بالكلمة، ويحنو باليد، ويترفّق في العطاء، لا أن يكون العون منةً، ولا الطعام امتحانًا للكرامة. فاللين لا يُسقط الهيبة، بل يصونها، والمحنة لا تبرر الفظاظة، بل تدعونا للسمو. فكونوا كرسول الله ﷺ: عظيم الخُلق، رفيقًا بأهله، عزيزًا على عدوه، ليبقى هذا الشعب، رغم النار، متماسكًا لا ينكسر.
مخاطبة الناس والصبر على أذاهم خيرٌ من اعتزالهم، فقد خالط الناس بسلوكه ﷺ فكان هيّنًا ليّنًا، وكان في خدمة أهله وشعبه، يطوف مع امرأة عجوز ليحل لها مشكلتها، عاش مع الناس وللناس متواضعًا، قائلاً: (إنما أنا عبد الله)، حتى لا يميّزه الغريب فيسأل: (أيكم محمد؟). ومع ذلك، احتفظ ﷺ بمساحة آمنة حفظت له الهيبة، وبتوجيه قرآني: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، فلم يكن مثله في الهيبة المقترنة بالحب، حتى وصفه الصحابة رضوان الله عليهم قائلين: "ما تمليت منه يومًا مهابةً".
مشقة الحياة اليومية القاسية في غزة، حيث طائرات الموت تملأ الأذن ضجيجًا، تجعل كل خطوة محفوفة بالمخاطر، سواء لجلب ماء الشرب أو للطعام، أو جمع الحطب لإعداد "طبخة الحصى" التي يتلهّى بها الأطفال في ظل انقطاع الغذاء. عشرات الكيلومترات تمشي بلا هدى، مترقبًا طائرات الإغاثة، وهو يحمل روحه على كفه، وقلب أهله فارغ من شدة الخوف: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10].
ومن مراكز الإيواء إلى أزقة المدينة، يقاوم الناس الذباب والبعوض وقسوة المناخ، من مطر يغرق الخيام إلى شمس حارقة تلسع الجسد، متزامنًا مع الحرمان الغذائي، والضغط النفسي الهائل، وتراكم القمامة ومياه الصرف الصحي، ما يجعل الحياة في غزة آسنة ومرعبة. ومع ذلك، يبرز الصمود والوفاء، فشعب غزة يواجه الموت والجوع بالثبات والكرامة، متحديًا الاحتلال والعدالة المفقودة، وملهمًا بخيراته المتواضعة من التطوع والخدمة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
اللين منهج نبوي، لكن محرقة غزة أوجدت ظروفًا جديدة قاسية، قتل وحرق يومي للمئات، وتدمير البيوت، وتجويع الأطفال والرضع، وانعدام النظافة، وتفاقم المرض. القسوة والغلظة نشأت بفعل الظروف، ولكن علينا نبذ الفظاظة وغلظة القلب، ونشفق على أهلنا ونستمر في التماسك والوحدة، بينما نحارب العدو بكل بأسنا، فالقسوة في الحرب لا تبرر القسوة بيننا.
إن مراكز النزوح ونقاط توزيع المساعدات مشهد متكرر، حيث فرق المتطوعين يخدمون جماهير المضحّين الذين قدموا أرواحهم وأبناءهم وبيوتهم في سبيل الله، مع حفظ التواضع واللين كما أوصى القرآن والسنة: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]، {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فالرائد لا يكذب أهله، ويؤثرهم على نفسه، ملتزمًا بالعمل الصالح، ومثالًا حيًا للنبل والرحمة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
مع كل الموت والدمار، وتهديد حياة الناس في كل شارع وبيت، فإن لقاء الله خير وأبقى، ما يفرض علينا الرقي في الأخلاق والأمانة واللين، وسط مشقة غزة: {لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، وأن نكون {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
بوركت جهود كل العاملين لخدمة شعبهم، وتقبّل الله صبرهم وعطائهم، ليكونوا كما كان ﷺ: لا فظًّا، ولا غليظًا، ولا شتّامًا، بل زكّاه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

