﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة - 155
غزة... صرخة التجويع والكرامة
"الناس شركاء في الكلأ"؛ وهي نعمة من الله تعالى ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ قريش – 4. وقد كانت غزة قبل المحرقة تفيض بالخير، حيث كانت السلع الغذائية متوفرة من كل الأنواع وبأسعار معقولة، مع تزايد الإنتاج المحلي من المزروعات كالخضار والفواكه. كانت الأسواق تنبض بالحياة، و"المول" كان من أبرزها بتنافُسه في المساحة والحداثة والتنوع وزيادة أعدادها، مستغلًا مهارات التجار في عرض منتجاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ إبراهيم - 34
وقد مضت سنتان على أهل غزة المهجرين في ما يُسمى "خيام النزوح"، التي تحترق صيفًا تحت حر الشمس، وتغرق شتاءً بمياه الأمطار، وتعصف بها الرياح بين لهيب الشمس وصرير البرد ﴿شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا﴾ الإنسان – 13. وفي ظل هذا الواقع البيئي والصحي الكارثي، تنتشر الأمراض والأوبئة كالنار في الهشيم، خاصة بين الأطفال وكبار السن، ما يزيد من معاناة أهلنا ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة - 155
في محرقة غزة، صار الحصول على شربة ماء حلمًا بعيد المنال، حيث تضطر العائلات للبحث والشراء، محظوظ من يجدها قريبة، ومن لا يجد ينتظر في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة أو برد الشتاء القارس، كي يحصل على بضع لترات تكفي لساعات معدودة. يتحمل أطفال العائلة أو الأم هذه المسؤولية الثقيلة يوميًا، ليس فقط للحصول على مياه الشرب بل حتى للمياه الأساسية، ومن ينال حمام ماء بعد يوم شاق يُعد من المحظوظين ﴿قَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ البلد - 4
من قلب هذه الجريمة البشعة — الإبادة بالتجويع الممنهج — تصعد غزة صرخة الألم والكرامة، حيث لم يعد الجوع ألمًا في البطون فقط، بل نار تحرق الروح وتمزق القلب. في هذه الأيام السوداء، يغيب الخبز والقطرة الواحدة من الماء، وتصبح الدعوات ثقيلة، كأنها تحتضر مع كل نفسٍ مؤلم. تحت خيمة بالية ملطخة بدماء الشهداء، تلوح مآسي أطفال فقدوا حياتهم، ينتظرون طبق حساء وشربة ماء على أعتاب مدرسة ترفرف فوقها راية الأمم المتحدة التي لم تمنع القتل والتدمير.
وسط الطوابير التي تمتد بلا نهاية، تقف الأم قلقًة على نصيب طفلها من ماء الحياة، بينما تحكي الأبناء عن سوق محاصر بأسعار خيالية، حيث العجز عن إطعام الأحبة يتسلل كسم قاتل، أقسى من رصاص الاحتلال. شهداء شباب يرسمون درب التضحية بدمائهم بحماية شاحنات المساعدات، يحاربون سياسة التجويع بصمودٍ وشجاعة، كأن الموت أصبح ثمنًا ثمينًا للدفاع عن الحياة.
في مشاهد تدمي القلب، يُقتل الأبناء وهم يبحثون عن لقمة، والأمهات تلهث من أجل النجاة وسط خرائب الحرب والدمار. هذه ليست مأساة جديدة، بل استمرار لحصار تجويعي ضارب في أعماق غزة سنوات طويلة، حيث تحوّل الخبز الأمني والمساعدات شريان الحياة الوحيد. على الجميع الزحف خلف المساعدات الشحيحة القادمة عبر البر أو الجو، يزاحمون ويخاطرون بحياتهم، وأطفالنا الكبار يتحملون مسؤولية عائلاتهم، إلى جانب إصرارهم على الثأر لأهلهم، ومسؤولياتهم في تحرير الأرض.
في مواجهة الجوع، يُضطر الإنسان للالتزام بوجبة واحدة يوميًا إن تيسر، وقد يمكث أيامًا بلا طعام، وسط تقديم الصدقات التي كثيرًا ما تأتي من أقاربهم في الخارج. نشأت تكيات وسط خيام النزوح، حيث ينتظر الأطفال والنساء لساعات طويلة من أجل طبق حساء يسد رمقهم. أما في خيام النزوح، وعلى بساط من قطع القماش وأخشاب مهترئة، عليك تدبر أمرك بنفسك، بينما يتحمل المسؤول القانوني عن الاحتلال عواقب إخراج شعبه قسرًا من بيوته دون مأوى أو أمان أو مأكل.
في محرقة غزة المستمرة، التجويع ممنهج كقرار عنصري ضد من أسموهم "حيوانات"، حيث دمّرت عصابات الإبادة كل الأسواق ومنعت وصول الغذاء، وأخضعت شعبنا لحصارٍ خانق، والمجاعة لا تزال تلتهب، حتى أن الأطفال لم يعرفوا طعم الفواكه أو اللحوم، مكتفين بالضرورات أو حتى علف الحيوانات وحشائش الأرض لم تعد متوفرة. ارتكب الاحتلال مجازر الطحين بدم بارد، مستهدفًا الباحثين عن كسرة خبز، وبدعم عصابات سرقة وقطع طرق شاحنات المساعدات لإثارة الفوضى.
المجاعة في غزة ليست نقصًا عابرًا، بل مخطط احتلال عنصري معقد لهدف تفكيك الروح، تفتيت النسيج المجتمعي، ودفع الناس إلى التهجير القسري. رغم ذلك، غزة تقاوم، تزرع الأمل بين الركام، تبني الحياة من رحم الألم، وتثبت أن الحصار ليس قدرًا محتومًا بل تحدٍ يُكسر.
في عالم مليء بالمؤامرات والصمت الدولي، تُخاض معركة الإنسان الغزي ضد التجويع كسلاح، وتُستغل المساعدات كواجهة لخداع العالم، تغذي جرح غزة بدلًا من شفاءه. لكن صوت المقاومة لا يُخمد، من شهداء وناجين، ومن أصوات الغضب حول العالم التي تطالب بالعدالة والكرامة، بمطالب واضحة: فتح المعابر، فك الحصار، محاسبة المعتدين، وإغاثة بلا توقف.
في سنة المحرقة الأولى، انتصر شعبنا العظيم في شمال غزة على المجاعة القاسية، حيث ربطوا على بطونهم حجارة، وأوقدوا نار طبخة حصى، وعضّوا على جراحهم في مواجهة قاتلي الأطفال، مؤكدين أن غزة لا تسقط رغم الحصار والمجاعة.
وغزة اليوم كلها ستنتصر على جريمة التجويع الممنهج لأنها رمز المقاومة والكرامة، تكتب بقصتها الملحمية أن الشعب لا يُجوع إلا بالقسر، ولا يموت إلا بإرادة من يحكمون الموت. إنها ليست مجرد نضال من أجل الحياة، بل ثورة من أجل العدالة والإنسانية التي لا تُقهر.
حقٌ علينا أن نعتز بمكانة فلسطين والقدس كعقيدة تسكن القلوب، ومعرفة عدوّنا التلمودي تجعلنا ننظر إلى هذه الابتلاءات كاختبار من الله تعالى لصقل أصحاب الحق في فلسطين، فتترسخ قيم الحرية والعدالة، ويثبت الصابرون ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ الأنفال - 45
ويكون النصر بإذن الله مع الصابرين ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة - 155

