فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

"*فَإِنَّهَا مَحْرَمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ*" (المائدة: 26)

هكذا نطق الوحي في وصف التيه الأول، حين فُرض على بني إسرائيل عقابًا ربانيًا جزاء تمردهم على الحق، لا التيه في الجغرافيا وحده، بل التيه عن المعنى، عن البركة، عن الهداية، عن الطريق.

واليوم، بعد أكثر من ثلاثة وعشرين شهرًا من نارٍ لا تنطفئ فوق غزة، يعيد التاريخ نفسه... ولكن بصورة مقلوبة.

ها هي "عصابات التيه" تغرق في تيه جديد، لكن هذه المرة... على يد من لا يملكون غير الإيمان والإرادة.

في غزة، حيث الموت يُوزّع بالتقسيط على الأحياء، وحيث الهواء ملوث برائحة القنابل، والتراب مشبع بدم الأطفال، تنكسر معادلة الجغرافيا أمام ثبات الإنسان. لم تنجح عصابات الابادة، بكل ما تملكه من ترسانة ونار وجدران وحلفاء، أن تطفئ جذوة المقاومة، أو أن تسرق الكرامة من جبين طفل يركض في الأزقة المدمّرة حاملاً الارادة كأنها رايات.

في المقابل، تتهاوى أعمدة المؤسسة الصهيونية من الداخل. تيه سياسي يتغذى على صراع داخل الكابينيت: تيارات تدفع بجنون نحو اجتياح بري شامل، تُلوّح بالدم والخراب لتحقيق نصرٍ وهمي، وأصوات أخرى، عسكرية وأمنية وعقلانية – ما تبقى منها – تحذر من كلفة الانهيار. صراع داخل معسكر الظلام نفسه، ينخره فقدان الرؤية، وتَراجع ثقة الشارع، وهلع النخب من النهاية.

في هذا التيه، النتن ياهو ليس زعيمًا بل مقامرًا محترقًا، يرهن دولته لأوهام الزعامة، ويحمل بين يديه شعلةً تحرق ما تبقى من توازن ديني وعلماني في البنية السياسية. ومعه ترامب، كظلٍّ باهت لزمن قبيح، يوقّع على المحرقة بشيك مفتوح لا يسدد إلا بدماء غزة.

تسعى دولة الاحتلال الآن إلى قضم غزة كمن يبتلع جمرًا. احتلال دون ضمّ أو انسحاب، احتلال بلا إعلان، قهر بلا مجازفة قانونية. تخطط لتجفيف الموارد، وتسميم الحياة، وتحويل السكان إلى جدران مكسورة تنهار من الداخل. لكن الخطة تنزف من أولها، لأن غزة ليست مكانًا فحسب... بل معنى لا يُحتل.

غير أن هذا التيه، هذا الإرباك، لا يدفع ثمنه جنرالات الاحتلال ولا ساسته فقط... بل يدفعه الشعب الفلسطيني في غزة من لحمه ودمه.

أكثر من ستمئة وسبعين يومٍ من الحصار، القصف، المجازر، المجاعة، الدمار الكامل.

أطفال قُطعت عنهم الحياة، وأمهات احتضنّ أشلاء، ومستشفيات تُطفئ أنفاس المرضى لأن الكهرباء نفدت، والجوع أصبح هواءً يتنفسه الناس.

لكن، هل انكسرت غزة؟

لا.

من تحت الأنقاض خرجت غزة أكثر وعيًا، أكثر شراسة، أكثر حياة.

كل صاروخ لم يُقتل به المقاوم، زاد منبته.

كل وعد باجتياح لم يتم، زاد عزيمته.

كل قصف عقيم، زاد قناعة العالم أن هذه المعركة ليست توازن قوى... بل تحدي إرادات.

وفي المقابل، يتعرّى الكيان كدولة مأزومة، تائهة، تخوض حربًا بلا أفق، تُمسك السكين من شفرتها، وتغرق في وحلها الأخلاقي، بينما يقف الفلسطيني – وحده – كأيقونة، يعيد تعريف البطولة كفعل يومي، كصبر، كصمود، كقدرة على تحويل الموت إلى حياة.

فأي جيشٍ هذا الذي لا يعرف لمن يحارب؟

وأي دولةٍ هذه التي تُهزم أمام "شعب محاصر" بلا سلاح، بلا مياه، بلا طعام، لكنه يمتلك إرادة لا تعرف الانكسار؟

وأمام هذا المشهد الملحمي، يعود السؤال خالدًا، صارخًا، في وجه كل جنرال، كل سياسي، كل محتل:

كيف تهزم من عشق الموت... في سبيل الحياة؟

كل ما يحدث يُؤكد أن العصابات المجرمة – بكل ما تملك – دخلت مرحلة التيه الاستراتيجي.

تيه يشبه الأول... لكنه أشد ظلمًا.

فبين الانقسام الداخلي، وتآكل الثقة، والارتباك العسكري، والعجز السياسي، والعزلة الأخلاقية... تتآكل الدولة من داخلها، بينما تتماسك غزة، على المعنى، والذاكرة، والإيمان.

غزة تقول: لسنا ننتصر لأننا أقوى، بل لأننا الأحق.

غزة تقول: الأرض لمن يعشقها، لا لمن يحتلها.

غزة تقول: لا مستقبل يُصنع بالقوة، بل بالإرادة.

المصدر / فلسطين أون لاين