في خيمة لا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار في أربعة، نُصبت فوق أرض ترابية مُغطاة بحجارة مسجد دمره القصف، على أطراف حي الكرامة شمال مدينة غزة، تعيش عائلة "أبو حليمة" بعد أن كانت تنعم بحياة مُزدهرة في بلدة بيت لاهيا، حيث امتلكت مزرعة فراولة مساحتها 18 دونمًا.
تقول أم أحمد (47 عامًا)، وهي تمسح وجه أحد أطفالها من آثار السواد الناتج عن دخان موقد بدائي: "كنا نعيش حياة كريمة. زوجي كان يعتني بالمزرعة، وأنا أساعده في فرز الفراولة وتغليفها. كانت مصدر رزقنا وفخرنا. كنا ننتظر موسم القطاف كمن ينتظر العيد".

لكن العيد لم يأتِ هذا العام، ولا العام الذي سبقه. فمنذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر 2023، أصبح صوت القصف يعلو على كل مظاهر الحياة.
وفي ليلة رمضانية، اضطرت العائلة لمغادرة منزلها ومزرعتها تحت وابل القذائف، بعد أن استأنف الاحتلال حرب الإبادة في مارس 2025.
ليلة النزوح المؤلمة
"لم نأخذ معنا شيئًا. ركضنا، أنا وزوجي وأطفالنا، نحو المجهول"، تقول أم أحمد بصوت مكسور.
يضيف زوجها نزار أبو حليمة (45 عامًا): "خرجنا تحت حزام ناري مفاجئ، رغم أن المنطقة كانت مصنفة آمنة حسب خريطة نشرها الاحتلال".
يروي بألم: "استشهدت عمتي وأبناؤها وكنتاها، وعمي وابنه أيضًا، وعدد من جيراني. لم أستطع إنقاذ أحد، فالقذائف كانت تمطر المكان كالمطر".
ويزيد من ألمه أن بعضهم لا يزال تحت الأنقاض إلى اليوم.
بعد ساعات من التنقل بعربة يجرها حيوان، وصلت العائلة إلى أطراف حي الكرامة، بحثًا عن ملاذ.
لم يجدوا مكانًا في مدارس الإيواء الممتلئة، فنصبوا خيمتهم على قطعة أرض خالية بلا فراش ولا أغطية كافية.
المأساة لا تخصهم وحدهم؛ فوفقًا للأمم المتحدة، نزح أكثر من 390 ألف شخص في الأسابيع الأخيرة، مبينة أن العدد الدقيق للأشخاص المتبقين في مناطق الإخلاء غير معروف.
حياة بلا مقوِّمات
الوضع في الخيمة صعب. المساعدات نادرة، والطعام شحيح، والطبخ يتم بالحطب لغياب الغاز، والهواء يُعيق إشعال النار.
هذه المرة الثانية التي تنزح فيها الأسرة، بعد أن دُمِّر منزلهم مع بداية الحرب، وتنقلوا بعدها بين جنوب ووسط القطاع بحثًا عن أمان مفقود.
"الخيمة لا تقي من حرّ الشمس ولا برد الليل. أطفالنا لا ينامون من الحكة والبعوض، وأحيانًا لا نجد طعامًا كافيًا للجميع"، تقول أم أحمد وهي تنظر لابنتها الصغيرة.
أما نزار، الذي كان يعمل يوميًا في أرضه، فأصبح بلا عمل ولا مصدر رزق.
"كل شيء دُمِّر. الزرع احترق، والبيارة جُرِّفت، حتى أدوات الزراعة سُرقت"، يقول وهو يُحاول تثبيت دعامة خيمته التي انحنت من الرياح.
قبل الحرب، كان يقضي 10 ساعات يوميًا بين شتلات الفراولة. أما اليوم، فيعتمد على مساعدات إنسانية متقطعة.
"زرعت الأرض أعوامًا، واليوم أبحث عن فتات الطعام. فقدت 20 كيلوغرامًا من وزني منذ النزوح".
كانت مزرعتهم تُنتج ما يقارب 4 أطنان من الفراولة لكل دونم سنويًا، وتُصدرها للخارج. حصلت العائلة على شهادات تميُّز من جهات أوروبية، وكانت توزع الشتلات مجانًا على المزارعين.
"اليوم، لم يتبقَ شيء"، تقول أم أحمد بحسرة.
أحلام الأطفال الضائعة
لا يذهب أطفال العائلة الثلاثة إلى المدرسة منذ بداية الحرب، كحال مئات آلاف أطفال غزة.
أحمد (16 عامًا) يعاني من "زيادة كهرباء" في جسده، ورود (10 أعوام) كانت تحلم بأن تصبح طبيبة، أما ضحى الأصغر فلا تفهم لماذا لم يعد لديهم سرير أو ألعاب.
تقلب أمهم صفحات ألبوم صور: "كنت أشتري لهم أجمل الثياب. رغم انشغالنا بالزراعة، كنت أحرص على تعليمهم. ورود وضحى كانتا من المتفوقات".
"أسوأ ما في النزوح ليس الجوع فقط، بل شعور أطفالنا بالخوف الدائم. كل ليلة يستيقظون مذعورين من صوت الطائرات. الزنانات لا تترك لحظة هدوء"، تقول أم أحمد.
تخشى كثيرًا على أطفالها الذين جاء أولهم إلى الحياة بعد عشر سنوات من الزواج.
ورغم قسوة الواقع، تحاول الحفاظ على كرامة العائلة: تغسل ملابسهم يدويًا، وتجمع الأعواد لطهي ما توفَّر من طعام.
في البداية، كانوا يعتمدون على مساعدات قليلة بالكاد تسد الرمق.
أما اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعين يومًا على إغلاق المعابر، انقطعت المساعدات تمامًا، وأصبح تدبير الطعام والشراب معركة يومية.
"نحن لا نطلب شيئًا سوى الأمان. نريد فقط أن نعود إلى أرضنا، نزرعها من جديد ونعيش ببساطة"، يقول نزار بإصرار رغم الإنهاك.
في خيمتهم المتواضعة، لا تزال رائحة التراب تذكرهم بالأرض والزرع، وتمنحهم بصيص أمل بأن يعودوا يومًا.
تختم أم أحمد كلامها وهي تُغالب دموعها: "نتمنى أن يجبر الله قلوب كل الفلسطينيين، وأن تتوقف نار هذه الحرب إلى الأبد".

