على الطريق نحو منازل الشهداء، كانت جموع المواطنين تقف هنا وهناك، فهذه امرأة تطل من نافذة منزلها تنهال الدموع على وجنتيها، مسحتها بيديها مطلقة زغرودة مع مرور جثامين أقمار الوسطى الخمسة من أمامها.
مشاعر مختلطة بين الحزن على الفراق والفرح بالشهادة تملكت أهالي غزة، هي ما رصدته صحيفة "فلسطين" خلال مشاركتها الأهالي في تشييع شهداء نفق شرق خانيونس.
كانت أولى محطاتنا عندما وطئت أقدامنا بيت عزاء الشهيد حسن أبو حسنين في مخيم البريج، حيث تجمّع حولها المواطنون، وأخذوا يقبلون والده ويقدمون له التهاني في عرُس استشهاد نجله.
حاولنا اقتناص لحظات قليلة من والده رمضان في العقد السادس من عمره، الذي بدا على ملامحه التعب والأرق، يصف نجله قائلاً "أحب حسن المقاومة كثيراً فمذ كان صغيرا ً التحق بالجهاز العسكري لسرايا القدس".
بدت عيناه كالشفق من كثرة ما ذرف من دموع، متمماً قوله "أمضى حسن حياته على درب الجهاد والمقاومة، وهو مُلاحق من الاحتلال منذ قرابة 15 عاماً، ونجا في أكثر من عشر محاولات اغتيال منذ عام 2003، وفق ما روى والده الطبيب المتقاعد".
ويضيف: لقد آلمنا فقدان حسن (35 عاماً) إلا أننا لا نقول إلى ما يرضي الله "إنا لله وإنا إليه راجعون (...) كنا على علم بأن يوما ما سيغادرنا حسن".
وفي غمرة الوجع لم يفت والد حسن التأكيد على ضرورة توحيد المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والمُضي قدما في طريق الشهداء حتى تحرير كامل تراب فلسطين.
في تلك اللحظات، حضر ابن الشهيد البكر "حمزة" كانت عيناه رطبة من كثرة ما بكى ألماً على فراق والده، لم يستطع التحدث سوى بكلمات8 قلائل أفضت إلى ما يكنه الطفل من تقدير في داخله "بابا كان يعاملنا كويس.. الله يرحمه ويدخله في جناته العليا".
أما شقيقه ياسر، فيُبين لنا علاقة الشهيد مع عائلته وذويه بالقول "تميز حسن بالتواصل دائماً مع البيت وعلاقته مميزة مع الجميع".
وعلى نهج والده، يشير ياسر إلى أن طريق المقاومة ماض ومستمر "فنحن نواجه عدوا لا يرحم صغيراً ولا كبيراً".
"لم نتفاجأ"
أما في منزل الشهيد أحمد أبو عرمانة، الذي يسكن في ذات المخيم، فلم تكن الصورة على النقيض، وهنا يسرد عمه حسن (56 عاماً) مناقب ابن أخيه، قائلاً "رجل بسيط صادق، أخلاقه عالية، يحرص على عمله بشكل كبير جداً، كما يتمتع بعلاقة طيبة بين أفراد عائلته خاصة والديه".
ويصف نبأ استشهاده أحمد بأنه غير مفاجئ إذ كان معروفاً في الوسط كأحد قادة العمل المقاوم منذ سنوات طويلة، مستدركاً "لكن لم نتوقع أن يكون في هذا التوقيت الذي تشهد فيه غزة حالة من الهدوء، وأجواء المصالحة".
أما رسالته فكانت هي الأخرى كحال غزة تتشبث بالمقاومة وسلاحها وترفض أي محاولات لنزعه بوصفه وتداً تستند عليه الأمهات والزوجات المكلومات.
"ومن كعرفات؟"
"الشهيد ما في منه" بهذه الكلمات البسيطة عبر الحاج خليل الشريف، عن حجم الألم الذي يعصف بنفس محبي قائد لواء السرايا القدس بالمحافظة الوسطى الشهيد عرفات أبو مرشد.
وبكلمات هادئة يعلوها الفخر، يقول والد زوجته السبعيني بكلمات بالكاد تكون مسموعة "عرفات ما في منه، وعلاقته (منيحة) مع الجميع، وبيحب يساعد الكل (...) الخبر كان صدمة كبيرة على الجميع"، متمماً حديثه بالدعاء للشهيد برحمة واسعة وجنة وارفة، ومقاومة موحدة تثأر لدمه ودماء رفاقه في السلاح.
في الزاوية المقابلة، كان يجلس عبد المنعم شاهين، صديق الشهيد منذ أكثر من 30 عاماً، ورفيقه في سجون الاحتلال.
ويصف شاهين صديقه عرفات بأنه "إنسان نبيل صاحب خلق رفيع، شخص منضبط، مُخلص لعمله منذ أن كان في سجون الاحتلال".
ويقول والحزن يرتسم على محياه: "لا زلت غير مصدق لخبر استشهاد رفيق دربي حتى اللحظة، لقد فجعت بالخبر .. استشهاد عرفات هو خسارة لفلسطين كلها".
لكنه وبعزيمة قوية، بعد صمت استمر للحظات قال: "المقاومة ستكون بخير وسنواصل الطريق خلف الشهيد عرفات، خاصة أن العدو يحتل أرضنا ولا يرحم الصغير ولا الكبير".
حين يبلغ الحزن مبلغه
انتهى بنا المطاف حيث عائلة عمر الفليت، التي التقينا بها عند خروجها من المقبرة بعد أن احتضن الأرض جسد الشهيد.
كان الحزن قد أخذ من والده المسن مأخذه، فهو بالكاد يستطيع الحركة، وكان خبر استشهاد فلذة كبده كأنما جبل سقط على كتفيه.
استرقنا بضع ثوانٍ منه، فاكتفى بالثناء على الله "الذي ما أغضبه يوماً، وقد كان ذا خلق طيب مع الجميع".
لم يستطع الرجل السبعيني وصف لحظات سماعه الخبر، وأخذت عيناه تذرفان الدموع تباعاً وهو يقول "كان خبر الاستشهاد صعبا جدا.. الله يرحمك يا عمر".

