مئذنة مسجد تتمدد على الطريق، وحجارة وأحزمة إسمنتية، ومركبات مدمرة، وأشجار محترقة تفترش الطرق المحاذية، بناء كامل تحول إلى كومة من الركام، النيران تشتعل بإحدى زوايا مدرسة "دار الأرقم" التي تؤوي النازحين وتقع بحي التفاح شرق مدينة غزة، في كل ركن يبحث الأهالي عن جثامين أبنائهم أسفل الركام، يحاولون ذلك بأدوات بدائية وبأظافرهم بعد ساعات من الحفر ورفع الحجارة.
في محيط المدرسة، يحاول أهالي البيوت استيعاب الصدمة التي طالت منازلهم وتضررت بشكل كبير، الجميع ينظر بذهول وكأن زلزالا ضرب المنطقة في مجزرة خلفت عشرات الشهداء والمصابين، غادر النازحون المكان الذي لم تبقَ فيه معالم للحياة ودُمر كليًا، بأرواحهم فارين من الموت، تاركين ملابسهم وأمتعتهم وحتى شهداء لم يستطيعوا انتشالهم لحظة قصف الاحتلال المدرسة في المرة الأولى، ثم منحهم مهلة عدة دقائق للخروج، قبل أن يعاود تدمير المدرسة بالكامل بسبعة صواريخ أخرى.
ساحة تعج بالحياة
قبل القصف بعشر دقائق، كانت ساحة المدرسة تعج بالحركة والحياة، يلهو الأطفال في ركن من الساحة وقبل ذلك بساعة انتهوا من حفل ترفيهي حاول القائمون عليه رسم البسمة على وجوههم وتعويضهم عن كل شيء مفقود، وفي ركن آخر وبعد صلاة العصر كان الشباب يمارسون لعبة الكرة الطائرة كعادتهم، يحاولون الترويح عن أنفسهم وسط ضغط الحرب والحياة، تتوزع النساء على ممرات طوابق المركز، وتعد أخريات طعام الغداء على الحطب.
في ساحة المركز، توزع الشاب محمد الشكري ورفاقه على فريقين تمهيدا لبدء لعبة الكرة الطائرة، وقبل بدء المباراة ارتفعت أنظاره نحو زوجته ولاء أيمن الريفي التي اعتادت مؤازرته وهي تقف أمام غرفة صفهم، بادلته النظرة ولم يعلم أنها نظرة الوداع، في لحظة انهالت ثلاثة صواريخ إسرائيلية مفاجئة بلا سابق إنذار على المدرسة بعد عصر الخميس الموافق 3 إبريل/ نيسان 2025.
بعد انقشاع الغبار واتضاح الرؤية أمام الشكري، نظر حوله ليجد الساحة تغرق بالدماء والأشلاء والرؤوس المقطوعة عن أجسادها وأجساد بلا رؤوس، لم يصل لزوجته إلا وبدأت طواقم الدفاع المدني تخلي النازحين والمصابين وتنتشل الشهداء بعد تهديد الاحتلال بإعادة قصف المدرسة بالكامل ليخرج من المكان، ويجد الطواقم قد نقلت زوجته الحامل بشهرها الخامس شهيدة ونجت لديه طفلة، واستشهدت طفلته مريم (4 سنوات) وبقيت عالقة تحت الركام.
ظهر الجمعة، يجلس الشكري على أحد الحجارة قبالة فتحة في سقف ركام استطاع فتحها بمساعدة أصدقاء وأقارب، الكل يتعاون منذ ساعات الصباح في رفع وإزالة الحجارة والركام يحاولون انتشال طفلته.
بينما يجلس الشكري بكل ثقل الفقد الجاثم على قلبه، يقول لصحيفة "فلسطين" بكلمات مليئة بالصبر والاحتساب لمصابه الجلل: "قبل القصف بعشر دقائق عادة نصلي العصر وننزل لساحة المركز ونمارس بعض الألعاب لنخفف عن أنفسنا، وكان الأطفال يلهون بجانبنا لكن الاحتلال يأبى أن يكون هناك فرحة لهذا الشعب، ورغم ذلك سنبقى صامدين مهما عظم الثمن والتضحيات".
قدوم نازحين
لم تكن الساحة تعج بسكان المدرسة فقط، بل تزامن الاستهداف مع قدوم نازحين من حي الشجاعية، وكأن الاحتلال تعمد استهداف المدرسة في ذروة الازدحام لإيقاع أكبر قدر من الجرحى والشهداء.
منذ ثماني ساعات استطاع الشكري ورفاقه فتح مترين في الركام وتبقى لهم نصف المسافة للوصول إلى جسد مريم، يعلق بكل ما أخرجه قلبه من قهر: "لم نتمكن من الوصول لطفلتي فالقطاع يفتقر لكل المعدات اللازمة للإنقاذ، بالأمس دفنت زوجتي وجنينها الذي كنا ننتظره وكنا ننوي تسميته "أسامة" لكن لله ما أعطى ولله ما أخذ والحمد لله".
فقدت زوجته خلال الحرب والدها واثنين من أشقائها وعمها وزوجة أخيها وابنته، لتلتحق بهم شهيدة في مجزرة دموية.
في مشهد آخر من الحدث، وقبل القصف كان خالد الشرفا يجلس مع والده محمد الشرفا وزوج شقيقته يوسف حسونة، فيما تعد نساء العائلة طعام الغداء على الحطب وقبل أن تتجمع العائلة على مائدة واحدة، ذهب والده وزوج شقيقته لأخذ غفوة نوم قصيرة في غرف الصف المجاور بينما احتسى هو كوبا من القهوة.
يحكي الشرفا لصحيفة "فلسطين" أثناء محاولته البحث عن بقايا أشلاء والده: "قبل القصف كان الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة، ويومها أقيم حفل بسيط له، والشباب يلعبون الكرة الطائرة، وبعد القصف امتلأت الغرف الصفية بالغبار. لم أستطع الرؤية فصرت أنادي على أبنائي وأتحسسهم وبدأت بتجميعهم جميعا وخرجنا، خرجت لأجد خمسة شهداء ملقون على الأرض استشهد أبي ولم نعثر إلا على الجزء العلوي من جسده وإحدى أقدامه، وعثرنا على أجزاء من جسد زوج أختي ووجدت قدمه في بيت الجيران".
يقف أمام تفاصيل دامية أخرى، يأخذ نفسا عميقا لاستعادتها: "عندما خرجنا كان هناك فتحة كبيرة في الممر منعتنا من الهروب، فجاءت طواقم الدفاع المدني وبدأت تطالبنا بالإخلاء الفوري لأن الاحتلال سيعيد قصف المدرسة، فخرجنا بدون شيء بأرواحنا".
رحلة تشتت
تشتت الشرفا كحال بقية العائلات التي خرجت تهديد وطأة القصف وفرارا من الموت بأرواحها، بلا ملابس أو مقتنيات، "أنا مش عارف حالي وين رايح؟ عند مين بدي أنام؟" يغادر المكان بهذا المصير المجهول، بعدما نام ليلته السابقة عند صديقه، بينما ذهبت زوجته لبيت عائلتها.
بين لحظة وأخرى كان الأهالي يعثرون على أشلاء شهداء أو جثامينهم، على مقربة من المكان وجد بعض الأهالي جثمان ابنتهم أحلام الزهارنة ملقاة أسفل ركام بالطريق، ووضعوها في كفنٍ وساروا بها نحو المقبرة، ترافقهم شقيقاتها وأقرباؤها يسيرون بدموع عيونم.
في ركنٍ آخر، يحاول يوسف المدهون وأقارب وطواقم دفاع مدني ي الوصول لجثمان خاله الشهيد محمد خليل عابد (43 سنة) ولم يكن الوصول إليه سهلا بسبب إطباق سقف آخر طابق عليه ما جعله يتعاونون منذ ساعات الصباح وبأدوات بدائية وما تملكه الطواقم من أدوات.
فتح المدهون والطواقم ثقبا في الجدار الإسمنتي أو وجدوه مفتوحا ما مكنهم من المرور، على مدار عدة ساعات كانوا يزيلون الركام والردم والحجارة في محاولة للوصول إليه، يقول لصحيفة "فلسطين" بينما يراقب عملية الانتشال: "كنت في بيتنا في حي الشيخ رضوان، وجاءت زوجة خالي وأولادها لزيارتنا، وكان من المقرر أن يأتي معهم، لكنه تأخر بسبب انشغاله في ظروف عمله، وحدث القصف".
جال المدهون وزوجة خاله في أقسام المستشفيات المختلفة وفي ثلاجات الموتى، بحثوا عنه بين أكفان الشهداء لكنهم لم يجدوه واستطاعوا تحديد مكانه والاستعانة بالدفاع المدني لانتشاله، يضيف: "لحظة القصف حاولنا الاتصال به، كان الهاتف يرن لكن دون رد فتعوقنا أن يكون شهيدا".
يصف المدهون خاله بأنه رجل بسيط يتمتع بأخلاق حسنة، خلوق أمضى حياته في العبادة والصلاة.
في محيط المدرسة كان د. محمد السكني وأقاربه وعمال يحاولون إزالة أكوام من الحجارة من داخل منزلهم الذي تحولت واجهته الجميلة وتكسوه الحجارة الحجرية البيضاء إلى رماد تملأها الفتحات والأضرار الكبيرة، في الأسفل انقلبت مركبة العائلة على ظهرها وتدمرت من شدة القصف، ويقوم الجيران بنفس الشيء محاولين إصلاح البيوت خاصة مع انعدام وجود أماكن إيواء يمكن اللجوء إليها.
أما الطفل عبد الرازق السكني، فكان يتواجد بنفس البيت لحظة القصف، يحكي لصحيفة "فلسطين" وبدا مليئا بالغبار نتيجة مساعدة عائلته: "عندما حدث القصف تطاير الغبار والكثير من الحجارة والشظايا تجاه منزلنا، أصيب تقريبا معظم أفراد العائلات بكسور وجروح طفيفة، وعندما خرجت للخارج شاهدت أشلاء الشهداء ملقاة على الأرض، أحد الشهداء وجدته معلقا على عمود كهربائي من شدة الانفجار، فكانت لحظات مرعبة جدا".
في نفس المنزل، كانت العائلة تستعد لحفل زفاف ابنتها العروس بعد أيام قليلة، يقول شقيق العروس رامز السكني لصحيفة "فلسطين" والذي تزوج قبل عام ولم يهنأ بشقته التي تعرضت لأضرار كبيرة: "كنا نحضر أنفسنا للفرح، وجهزت شقيقتي ملابسها لتغادرنا لبيت زوجها، لكن الحقائب احترقت وأختي أصيبت وقتلت فرحتها".