في أحد الأزقة الضيقة بمخيم الشاطئ بمدينة غزة، كان منزل عائلة الدجني يحتضن حياة بسيطة، مليئة بالأمل رغم الألم. لم تكن تلك الحياة مرفّهة، لكنها كانت تنبض بالحب، وكان قلبها النابض شابًا استثنائيًا اسمه مصعب الدجني، صاحب الـ25 عامًا، الذي عاش حياته بوجه بشوش وقلب نقي، رغم أنه وُلد بمتلازمة داون. لم يكن مصعب مجرد فرد من العائلة، بل كان روحها وبهجتها، الملاك الذي يزرع الضحكة في وجوه الجميع، حتى في أحلك الأوقات.
مصعب، الذي افتقد والده قبل سنوات إثر مرض عضال، عاش مع والدته وإخوته الأربعة في منزل بسيط لا تتجاوز مساحته بضع عشرات من الأمتار.
يقول علي ابن عم الشهيد لصحيفة "فلسطين"، رغم أن ظروفهم المعيشية كانت صعبة، إلا أن الحنان كان يغمر هذا البيت، وخصوصًا من والدته التي كانت تحيطه بعناية خاصة، ومن إخوته الذين كانوا يتسابقون لإسعاده، ويعاملونه كأيقونة حب ورحمة، لا كحالة خاصة.
كانت خطوات مصعب البطيئة، وكلماته البسيطة، تحمل من البراءة ما يكفي ليُضيء ظلمة المكان. كان معروفًا في الحارة، الجميع يعرفه، يمازحونه، وينادونه "مصعب الحنون".
لم يكن يمرّ يوم دون أن تراه يلوّح للأطفال، أو يشارك في توزيع الخبز الذي تشتريه أمه من الفرن القريب، أو يجلس بجانب أخيه الصغير ، يحكي له بطريقته الخاصة عن "أحلامهم الكبيرة بعد الحرب".
في ليلة الثلاثاء شديدة السواد، مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخصوصًا في مخيم الشاطئ الذي ضاق بأهله نزوحًا ودمارًا، جاءت الغارة. لم تكن العائلة مستعدة لما حدث، فمن يتوقع أن يتحول منزله إلى ركام في ثوانٍ؟
"سمعنا صوت الانفجار الكبير، ظننتُ أن البيت المجاور هو الهدف، لكن عندما خرجنا وجدنا بيت الدجني قد أصبح حطامًا"، يروي أحد الجيران، وعيناه تدمعان وهو يشير بيده المرتجفة إلى مكان لم يبقَ منه سوى بقايا الجدران والحديد المنصهر.
كان مصعب نائمًا إلى جوار والدته، كما اعتاد كل ليلة، وإخوته الأربعة يتوزعون في الغرفة الصغيرة الأخرى. الضربة جاءت في منتصف الليل، صاروخ أنهى حياة العائلة كلها في لحظة، ولم ينجُ منهم سوى الطفل البالغ من العمر 12 عامًا، الذي كتب له أن يكون شاهدًا حيًا على هذه المأساة.
مصعب، الذي عاش عمره كله بعيدًا عن الحقد، والذي لم يعرف يومًا معنى الكراهية، ارتقى شهيدًا تحت ركام بيت كان يعجّ بالدفء. لم يكن يحمل سلاحًا، ولم يكن هدفًا عسكريًا، كان فقط شابًا مبتسمًا، من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنه وقع ضحية قصف لم يفرّق بين حج وبشر، بين طفل ومُسن، بين مريض ومعافى.
استشهاد مصعب ليس مجرد رقم يُضاف إلى قائمة طويلة من أسماء الشهداء، بل هو جرح مفتوح في قلب الإنسانية. شاب اختصر حياته في الابتسامة، ورحل وفي قلبه براءة لم تُلوثها الحروب، ولا الحصار، ولا الجوع.
قصة مصعب الدجني هي واحدة من آلاف القصص التي تعيشها غزة اليوم. لكنها تظل علامة فارقة في سجل الإنسانية، فذلك الشاب، الذي ولد بمتلازمة داون، علم الجميع أن البراءة يمكن أن تُقتل، وأن الطهارة يمكن أن تُقصف، وأن القلوب البيضاء لا يحميها إلا ضمير العالم، الذي اختار الصمت.
رحل مصعب، وترك خلفه دروسًا في النقاء، وترك أخًا صغيرًا يحرس ذاكرته من النسيان، ويشهد على أن هذه الأرض، مهما احترقت، ستظل تنبت حبًا وأملًا جديدًا.