منذ أن أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رغبته في شراء جرينلاند من الدنمارك، باتت فكرة "شراء الأراضي" وكأنها وسيلة سياسية لتحقيق الطموحات التوسعية. هذا السلوك عاد مجدداً عندما طرح ترامب فكرة شراء قطاع غزة كحل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما أثار استهجاناً واسعاً. واليوم، يرد الدنماركيون على هذا المنطق بأسلوب ساخر، إذ أطلقوا عريضة تقترح شراء ولاية كاليفورنيا مقابل تريليون دولار، بحجة تحسين نمط الحياة فيها وفقاً للمعايير الدنماركية!
قد تبدو فكرة شراء كاليفورنيا هزلية، لكنها تحمل في طياتها رسالة سياسية عميقة. فالدنماركيون لا يقترحون ذلك عبثاً، بل يسخرون من نهج ترامب القائم على التعامل مع الأراضي والشعوب كسلع قابلة للبيع والشراء. فحين أعلن ترامب في وقت سابق رغبته في ضم جرينلاند، لم يكن يعبأ بإرادة سكانها ولا بتاريخها، تماماً كما لم يهتم عند اقتراحه "شراء غزة" بمصير مليوني إنسان يعيشون فيها تحت الحصار والدمار.
ترامب، الذي قدّم نفسه كرجل صفقات، يبدو أنه يرى العالم كحلبة مزادات، حيث يمكن شراء أراضٍ وتغيير خرائط وفقاً للمصالح الأمريكية أو لمزاجه الشخصي. وعندما طُرحت فكرة بيع غزة، كان الأمر صادماً ليس فقط لأنه يختزل معاناة شعب بأكمله في معاملة تجارية، بل لأنه يعكس الفجوة الأخلاقية في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية.
المفارقة أن الدنماركيين في عريضتهم الساخرة وضعوا يدهم على نقطة حساسة: ماذا لو تم التعامل مع الولايات المتحدة بنفس المنطق؟ إذا كان ترامب يعتقد أنه يستطيع شراء غزة أو جرينلاند، فلماذا لا يكون من حق الدنماركيين شراء كاليفورنيا؟ بل إنهم عرضوا مزايا "حياة أفضل" لسكانها، من رعاية صحية شاملة إلى سياسات قائمة على الحقائق، تماماً كما حاول ترامب تسويق صفقة غزة وكأنها "فرصة اقتصادية"!
لكن هل كان ترامب ليسمح بذلك؟ بالطبع لا. فالأمر ليس مجرد نقاش اقتصادي، بل يتعلق بمفاهيم السيادة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. الدنماركيون استخدموا السخرية لتسليط الضوء على ما يبدو وكأنه "استعمار حديث"، حيث يمكن لدولة عظمى أن تقرر مصير شعوب أخرى دون استشارتهم.
لا تختلف فكرة "شراء غزة" كثيراً عن فكرة "بيع كاليفورنيا" في مضمونها، رغم أنهما لا تبعدان عن كونهما فكرتين ساخرتين. فكلا الطرحين يتجاهلان حقيقة أن الأوطان ليست عقارات، وأن الشعوب ليست أرقاماً في حسابات بنكية. غزة ليست قطعة أرض فارغة يمكن بيعها لأعلى مزايد، بل هي موطن لأشخاص لهم تاريخ وهوية ومعاناة لا يمكن اختزالها في صفقة تجارية.
قد تكون عريضة الدنماركيين مجرد نكتة سياسية، لكنها تحمل درساً مهماً: ماذا لو طُبق منطق ترامب على بلاده؟ هل يقبل الأميركيون أن يتم بيع ولاياتهم بهذه السهولة؟ وإذا كان الجواب لا، فلماذا يُسمح بتطبيق هذه السياسة على الآخرين؟
في نهاية المطاف، غزة ليست للبيع، وجرينلاند ليست للبيع، وكاليفورنيا أيضاً ليست للبيع. الشعوب هي من تقرر مصيرها، وليس رجال الأعمال الطامحون إلى الصفقات الكبرى.