توقفت الحرب على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وأزمة الإيواء لا تزال تُشكل إحدى أخطر التداعيات الإنسانية الناجمة عن العدوان الصهيوني المستمر، حيث تفاقمت معاناة آلاف العائلات الفلسطينية التي وجدت نفسها بلا مأوى نتيجة الدمار الهائل الذي لحق بالمنازل والبنية التحتية المدنية، ورغم أن القانون الدولي الإنساني يُلزم الاحتلال بحماية المدنيين وضمان تلبية احتياجاتهم الأساسية، فإن "إسرائيل" تواصل التنصل من التزاماتها، متجاهلة بروتوكولات الإغاثة والقرارات الدولية التي تؤكد ضرورة توفير الحماية للنازحين.
إن هذا النهج الصهيوني لا يقتصر على الانتهاكات الميدانية، بل يمتد إلى عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، ويأتي هذا في ظل تواطؤ دولي غير معلن، حيث تكتفي المؤسسات الدولية بإصدار بيانات الإدانة دون اتخاذ إجراءات ملموسة تلزم "إسرائيل" بوقف انتهاكاتها أو تحمل إلتزاماتها القانونية.
وهُنا يصبح التساؤل عن دور المجتمع الدولي أكثر إلحاحاً: إلى أي مدى يمكن أن يستمر الصمت حيال هذه الكارثة الإنسانية؟ وما هي الأدوات المتاحة لفرض التزامات قانونية على "إسرائيل" لحماية المدنيين وضمان حقهم في حياة كريمة؟ هذه التساؤلات، وغيرها، تُشكل جوهر هذا المقال، الذي يسعى إلى تحليل أبعاد الأزمة، وتداعيات التنصل الإسرائيلي من البروتوكول الإنساني، والمسؤولية الدولية في ظل نظام عالمي يدّعي حماية حقوق الإنسان لكنه يفشل في إنفاذها حين يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني.
وحسب ما ورد في المؤتمر الصحفي للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة الصادر في 7 فبراير 2025، حول خروقات الاحتلال لبنود البروتوكول الإنساني والتلكؤ في إدخال الاحتياجات الإنسانية لقطاع غزة، حيث جاء فيه أنّ: "الواقع يثبت أن الاحتلال لا يترك فرصة للتنصل من التزاماته بتنفيذ الاتفاق بشكل عام والشق الإنساني منه بشكل خاص"، وأوضح أنّ ما تم إدخاله من خيام للإيواء لم يتجاوز 10%، من الخيام ولم يدخل أي بيت متنقل، ورغم النص بشكل واضح على ادخال 50 شاحنة وقود يومياً لتشغيل المستشفيات والمرافق الأساسية، لكن ما وصل فعلياً لم يتجاوز 15 شاحنة يومياً، مما تسبب في تفاقم أزمة الكهرباء وشلّ عمل المستشفيات والقطاعات الخدماتية المختلفة، ومن حيث طبيعة ونوعية المساعدات فإنّ غالبيتها يحمل طرود غذائية وخضار وفواكه وسلع ثانوية كالاندومي والشيكولاتة والشيبس، على حساب الاحتياجات الأخرى، ما يعني تلاعب واضح بالاحتياجات وأولويات الاغاثة والإيواء.
ويُشكل القانون الدولي الإنساني الإطار القانوني الناظم للنزاعات المسلحة، وهو يستند بشكل رئيسي إلى اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977، والتي تهدف إلى حماية المدنيين أثناء الحروب، ويُعد البروتوكول الإنساني جزءً من هذه الاتفاقيات، حيث يفرض قيوداً على أطراف النزاع، تحظر استهداف المدنيين وتلزم بتوفير الإغاثة الإنسانية وعدم تدمير البنية التحتية الحيوية بشكل غير مبرر، و"إسرائيل" للأسف انتهكت كل ما تنص عليه هذه الاتفاقيات، بدءً من استهدافها للمدنيين وخاصة في المناطق الآمنة التي أعلنت عنها، وتدمير البنية التحتية الحيوية بشكل مُتعمد، ومنعت شاحنات المساعدات من دخول قطاع غزة إلا في حدود ضيقة جداً وقت الإبادة الجماعية التي تعرض لها القطاع على مدار أكثر من 15 شهراً، ولا زالت حتى اللحظة تتلكأ في تنفيذ بنود الاتفاق فيما يخص البروتوكول الانساني بعد تنفيذ وقف إطلاق النار، هذه الانتهاكات تُعد "جرائم حرب"وفقاً لنظام "روما" الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وبموجب اتفاقيات جنيف، تتحمل "إسرائيل" مسؤوليات متعددة كقوة احتلال، خاصة في ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية التي عقبت وقف إطلاق النار، وأهم هذه الالتزامات هو رفع القيود عن دخول المساعدات الإنسانية، حيث يفرض القانون الدولي على "إسرائيل" السماح بدخول المساعدات الغذائية والطبية ومواد إعادة الإعمار دون عراقيل، ومع ذلك، فإنّ "إسرائيل" تفرض قيوداً مشددة على دخول هذه المساعدات، ما يزيد من معاناة سكان غزة ويعرقل جهود التعافي، وهي أساساً تنتهج سياسة قائمة على العرقلة والتقييد المتعمد للمساعدات الموجهة إلى قطاع غزة منذ بداية العدوان، ومن أشكال العرقلة الصهيونية للمساعدات الإنسانية الإغلاق الكلي أو الجزئي للمعابر الحدودية، بحكم سيطرتها الصارمة على معابر غزة، وتحكمها في تدفق البضائع والمساعدات، حيث تمنع دخول مواد البناء والإيواء بحجة “الاستخدام المزدوج”، ما يعطل جهود إعادة الإعمار، حتى في الحالات التي يُسمح فيها بمرور المساعدات، تُخضع إسرائيل الشحنات لإجراءات تفتيش معقدة تؤدي إلى تأخيرها لأسابيع أو أشهر، كما أنها تمنع وصول العديد من المواد الحيوية مثل الأدوية، المواد الغذائية، والوقود، ما أدى إلى تفاقم الأزمات المعيشية والصحية في القطاع.
ورغم تصاعد الأوضاع الإنسانية الكارثية في غزة نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، يبقى التدخل الدولي محدوداً وغير قادر على فرض التزامات حقيقية على "إسرائيل"، وفي الوقت الذي يُفترض أن تضمن فيه المنظومة الدولية حماية المدنيين وفق القوانين والمواثيق الدولية، فإن غياب آليات المحاسبة الجدية واستمرار ازدواجية المعايير يجعلان من تقاعس المجتمع الدولي عاملاً مساهماً في استمرار الأزمة، وتتحمل الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية مسؤولية كبيرة في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة، إلا أن هذه الجهود، رغم أهميتها، غالبًا ما تظل في نطاق التوثيق والإدانة دون ترجمة فعلية إلى خطوات تنفيذية تفرض المحاسبة والعقوبات، فعلى سبيل المثال: قامت لجنة تقصي الحقائق المستقلة التابعة للأمم المتحدة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها "إسرائيل" خلال عدوانها الأخير على غزة، وقد أصدرت تقارير تدين فيها "إسرائيل" بارتكاب جرائم حرب، لكن دون متابعة قضائية حقيقية.
كما وثّقت المفوضية السامية لحقوق الإنسان استهداف المدنيين والبنية التحتية، لكنها لم تستطع فرض آليات ضغط تلزم إسرائيل بوقف هذه الانتهاكات، ومنظمة العفو الدولية (Amnesty International) وهيومن رايتس ووتش (HRW) أصدرتا تقارير مفصلة تؤكد استخدام "إسرائيل" القوة المفرطة ضد المدنيين وعرقلة المساعدات الإنسانية، لكن دون أي استجابة قانونية مؤثرة من الدول الكبرى، فرغم الوضوح القانوني للالتزامات المترتبة على "إسرائيل"، فإن غياب المحاسبة الدولية يترك سكان غزة فريسةً لسياسات العقاب الجماعي والانتهاكات المستمرة.
وتتحمل الدول العربية والإسلامية مسؤولية أخلاقية وإنسانية تجاه دعم سكان غزة، خاصةً في ظل غياب موقف دولي حازم ضد الانتهاكات الإسرائيلية، وتبقى المسؤولية الدولية والعربية محورية في إيجاد حلول حقيقية لأزمة الإيواء في غزة، فرغم العراقيل السياسية، يمكن لهذه الدول تقديم دعم مباشر عبر آليات غير خاضعة للرقابة الإسرائيلية، إلى جانب الضغط القانوني لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، إن عدم التحرك الفعّال يعني استمرار المعاناة، فيما يمكن لأي جهد جماعي ومنسق أن يسهم في تخفيف الأزمة ودفع إسرائيل نحو الالتزام بالقانون الدولي.
ويمكن لهذا الدعم أن يأخذ عدة أشكال، منها:
أولاً: إطلاق مبادرات إغاثية عاجلة من خلال تأسيس صناديق إغاثية مشتركة لدعم بناء مساكن مؤقتة وآمنة للنازحين، وتقديم مساعدات عاجلة تشمل الغذاء والدواء والاحتياجات الأساسية.
ثانياً: تعزيز الجهود الدبلوماسية والضغط السياسي من خلال استخدام القنوات الدبلوماسية في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي لحشد الدعم الدولي لحماية المدنيين في غزة، بالإضافة إلى الضغط من خلال العلاقات الثنائية مع الدول الغربية لإيقاف الدعم غير المشروط لإسرائيل.
ثالثاً: دعم إعادة الإعمار على المستوى المؤسسي من خلال تقديم تمويل مباشر لمشاريع إعادة الإعمار، مثل إصلاح المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدمرة، بالإضافة إلى التعاون مع وكالات الإغاثة الدولية لضمان وصول المساعدات بعيدًا عن الضغوط السياسية الإسرائيلية.
رابعاً: تنسيق المساعدات عبر منظمات دولية محايدة وذلك بتعزيز دور الأمم المتحدة والهلال الأحمر والصليب الأحمر الدولي في توصيل المساعدات إلى غزة دون الحاجة إلى المرور عبر القنوات السياسية التقليدية، والاستفادة من النفوذ الدبلوماسي لدول غير منحازة لتمرير المساعدات دون عرقلة.
خامساً: استخدام الموانئ والمعابر غير الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية من خلال تنسيق الجهود لنقل المساعدات عبر معبر رفح بالتعاون مع السلطات المصرية، ومحاولة استخدام موانئ دول مجاورة مثل ميناء العريش في مصر لضمان وصول شحنات الإغاثة.
سادساً: توسيع الدعم اللوجستي من خلال المبادرات الشعبية والمنظمات الأهلية وذلك بتفعيل حملات التبرعات في الدول العربية والإسلامية لدعم المتضررين بشكل مباشر عبر منظمات غير حكومية، بالإضافة لتعزيز دور الجاليات العربية والإسلامية في الغرب للضغط على الحكومات من أجل تسهيل مرور المساعدات.
سابعاً: الحاجة إلى مسار قانوني لمحاسبة إسرائيل وإجبارها على الامتثال، إلى جانب الدعم الإنساني، يبقى الحل القانوني ضرورة لضمان عدم تكرار الانتهاكات الإسرائيلية، ومنع الإفلات من العقاب، وذلك من خلال تحريك قضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، وتقديم ملفات قانونية موثقة حول جرائم الحرب، مثل استهداف المدنيين، عرقلة الإغاثة، وتدمير البنية التحتية، بالإضافة إلى الاستفادة من آليات الأمم المتحدة، من خلال حشد التأييد داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لإصدار قرارات تدين إسرائيل وتطالب بتعويض الضحايا.
مع استمرار تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، لم يعد هناك مجالٌ لمزيد من الانتظار أو الاكتفاء ببيانات الإدانة والقلق الدولي، فحجم الدمار وأعداد النازحين الذين يواجهون ظروفًا مأساوية في ظل غياب أدنى مقومات الحياة، يفرض على المجتمع الدولي التحرك العاجل واتخاذ إجراءات حاسمة تضمن إدخال المساعدات دون عوائق، وإعادة إعمار ما دمرته الاعتداءات الإسرائيلية، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، إن إنقاذ المدنيين في غزة ليس مجرد التزام أخلاقي، بل هو واجب قانوني على المجتمع الدولي، وأي تأخير في الاستجابة يعني مزيدًا من المعاناة لجيل بأكمله يعيش تحت وطأة الحصار والدمار.