إن أهم ما يميز أي مجتمع هو مدى الانسجام والتوافق بين مكونات النسيج الاجتماعي باعتباره عامل استقرار من جهة، وعامل استمرار نحو المستقبل الواعد من جهة أخرى، وإن أي خلل قد يحدث في بنية النسيج الاجتماعي ستنعكس سلبًا على كافة تفاصيل حياة المجتمع، هكذا يرى علماء الاجتماع.
إسقاطاً لرؤية علماء الاجتماع في مدى تأثير غياب الانسجام والتناغم بين مكونات الشعب على وحدة النسيج الاجتماعي في واقعنا الفلسطيني، سنلاحظ أن نسيجنا الاجتماعي قد أصابه بعض الترهل والخلل بفعل أحداث الانقسام السياسي بين أكبر الفصائل الفلسطينية، فتح وحماس، مما أدى بدوره إلى ضعف العلاقات الاجتماعية بين أبناء التيارين ومن يناصرهما، لدرجة وصلت حد قطيعة رحم بين أبناء العائلة الواحدة بحكم أن كل منهم ينتمي لتيار يختلف عن الآخر، فالصديق ابتعد عن صديقه لأنه لا ينتمي لحزبه، ولدرجة وصلت أن الشاب حينما يتقدم لخطبة فتاة يتم سؤاله عن توجهاته السياسية، فإن كانت توجهاته السياسية متوافقة مع توجهات أهل الفتاة، كان الزواج، وإلا، فلا زواج، حتى لو كان الشاب على خلق طيب، هذا مجرد مثال.
وإزاء هذا الخلل، كان لا بد من وقفة لعلاج آثاره، فتم تشكيل لجان لمعالجة كافة آثار الانقسام، ومن هذه اللجان "اللجنة الوطنية العليا للمصالحة المجتمعية" للنظر في الخلافات بين العائلات وإعادة الحقوق إلى أهلها، فتزول الشحناء وتصفو الناس لنتفرغ جميعا لمواجهة الاحتلال ونحن مطمئنون بأن جبهتنا الداخلية رصينة ومتماسكة.
فقامت هذه اللجان بزيارات عديدة لأهالي الضحايا للتوصل إلى حلول معهم، فمنهم من عفا، رغم أنه يعرف: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، لكنه آثر" وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، ومنهم من أخذ الدية المحمدية وهذا حقه، ولا يعاتبه أحد في ذلك.
صحيح أن فقدان الأحبة أمر ليس سهلاً، ولا يقدر بمال، وأن نسيانهم مستحيل، هكذا تقول أبجديات الحب، لكن الإنسان المسلم المؤمن بقضاء الله وقدره يستجيب لنداء الشرع في التعامل مع مثل هذه القضايا ويحتسب مصابه عند الله، ثم إن علينا أن ندرك أن الوطن يحتاجنا أخوة متحابين، وليس متنافرين، لأن بقاء الشحناء بيننا هو خدمة مجانية للاحتلال.
إن التأييد الشعبي لجهود الجهات الساعية للمصالحة المجتمعية ينبع من الحرص الجمعي على أهمية النسيج الاجتماعي وحفظه وانسجاما مع الرسالة العميقة للآيات التي تخبرنا بأن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون"، فالمصالحة المجتمعية هي كالخيل التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام "معقود في نواصيها الخير"، لأن الخيل بما ترمز له من قوة هي وسيلة دفاع وهجوم، والمصالحة كذلك صمام أمان لحماية الجبهة الداخلية والانطلاق نحو الهجوم على العدو ونحن مطمئنون على جبهتنا الداخلية.
إن المشاهد التي نراها في لقاءات المصالحة المجتمعية بين العائلات لتؤكد أن كل عائلة تقدم مصلحة الوطن على مصلحة العائلة، وهي بقبولها الصلح تبرهن أن الوطن أكبر منا جميعا، خاصة في ظل الظروف التي تعصف بقضيتنا.