نامَت نواطيرُ رام الله (وما حولها)؛ فعلى مدار نحو عامٍ ونصف العام من الإبادة الإسرائيليّة لقطاع غزّة، لم يكن بوسع السلطة الفلسطينية إلّا البحث العجائبي في نظريّات المؤامرة، وتحميل الفلسطينيين وزرَ قطع رؤوسهم واستجلاب الحرب، إضافة إلى التضامن السلمي؛ كإطفاء أنوار المدينة عدّة دقائق تضامناً مع غزّة إثر انقطاع الكهرباء (والحياة) عنها، أو تغيير اسم شارع هنغاريا؛ لأنّها صوتت ضدّ وقف إطلاق النّار في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، ناهيك عن استمرار استجداء المجتمع الدولي، والنفخ في حلّ الدولتين الميّت بالإجماع، وتقديم الهزائم على أنّها انتصارات. وفي الأثناء... كانَ شبّانٌ، ولدوا داخل الممرّ المؤقّت (أوسلو) وشبّوا عنه، يحاوِلون إنقاذ المدينة من مأزقِ اسمها الصعب في كتب اللغة، وكانوا قرّروا أنّها (رام الله) إن كانت إرادة الله فعلاً فإنّه رامها أكثر وضوحاً والتزاماً واتّزاناً، وأنّه إذا رام مدينةً قدّسها (وما حولها)، وقدّس الدفاع والذود عنها.
تردّد في الخطابات الإعلامية لمسؤولي السلطة الفلسطينية، منذ 7 أكتوبر (2023)، مصطلحُ "إشعال الضفة"، الذي يشيرُ إلى الأعمال المُقاوِمة في عدّة مخيّمات، أهمّها جنين وطولكرم ونور شمس، ورُبِط هذا المصطلح بمصطلحٍ آخر هو "الفوضى"؛ إذ يُشار إلى أنّ البديل من "مشروع" السلطة الوطنية الفلسطينية الحالي هو الفوضى، وتحديداً الفوضى المموّلة من إيران (مع إغفال تراجع دور أذرع إيران ومكانتها ونفوذها في المنطقة)، وتعود (أو تُعاد) إلى الواجهة بتصريحات لقائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني، أمير علي حاجي زاده، قال فيها عام 2014: "سنسرّعُ تسليح الضفة الغربية". وهذا المصطلح، أي الفوضى، يرتبطُ أيضاً بمقارنة ضمنية غير منطقية، مع أنّ أساسها منطقي، وهي الحفاظُ على حياة الفلسطيني، ومنع حصول إبادة في الضّفة مثل التي تجري في غزّة.
نقلت هيئة البث العبرية، في يوليو/ حزيران الماضي، عن مسؤولين في الأجهزة الأمنية الفلسطينيّة قولهم إنّه "خلال عامٍ من الممكن أن تطلق حماس والجهاد الإسلامي صواريخَ من الضفة بقدرة الصواريخ نفسها التي كانت تنطلق من غزّة". هذه التصريحات الفلسطينية، والمنسوبة إلى فلسطينيين تزامنت مع ادّعاء دولة الاحتلال الكشفَ عمّا أسمته "خطّاً لتهريب الأسلحة" من إيران إلى الضفة الغربية، وتحذيرها أكثر من مرّة بلسان أكثر من مسؤول أنّ ما جرى في 7 أكتوبر من الممكن أن يجري في الضفة الغربية تجاه المستوطنات، وجاءَ في الشّهر نفسه (يوليو/ تمّوز 2024) الذي نشرَ فيه باحثان إسرائيليان في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تلّ أبيب في صحيفة معاريف العبريّة ورقةً، حذّرا فيها من طوفان جديد يمكن أن ينطلق من الضفة الغربية. وهذا كلّه جاءَ مترافقاً مع إجراءات الوزير المتطرّف إيتمار بن غفير لتسليح المستوطنين وتعزيز حماية المستوطنات بأسلحة ثقيلة.
إذاً، يمكن القول إنّ التصريحات الفلسطينيّة، أو التلميح إلى أنّ الأعمال المُقاوِمة (البسيطة والفردية وغير المنظّمة شماليّ الضفة الغربية)، التي قد تقود إلى طوفان جديد، جاءت بناءً على رواية وترويج إسرائيلي محض، وله أهدافه بالضرورة، وإنّ كلَّ فلسطيني في الضفة الغربية، عاش فيها ووقف على حواجزها واجتاز طرقها الالتفافيّة وبوابتها، وتأقلم مع حياته المنتهكة وخصوصيته المعدومة، يدرك تمام الإدراك أنّ الحديث عن طوفان فلسطيني جديد ينطلق من الضفة الغربية باتجاه المستوطنات غير منطقي وغير ممكن الحدوث أبداً وإطلاقاً، وإنّ "الطوفان" الوحيد الذي يمكن أن يحصل عكسيّ، من المستوطنات الإسرائيلية نحو التجمعات والقرى والمدن الفلسطينية وغرضه القتل والتهجير، وإنّ كلّ فلسطيني يعيش في الضفة يدرك صعوبة الحديث عن تهريب للأسلحة (أو أيّ شيء آخر) إلى الضفة الغربية من الخارج، ويدرك استحالة أن ينطلق صاروخ واحد من الضفة الغربية، وهذه القناعات هي تماماً مثل قناعة كلّ مَن يعرف الجغرافيا الفلسطينية، ويعرف أماكن المستوطنات ومساحاتها، باستحالة تطبيق حلّ الدولتين في الأرض، إذ يبدو احتمال اختفاء دولة الاحتلال إثر حرب طاحنة، أو إعياء ثقافي، أو تغيّرات ديمغرافية، معقولاً أكثر من احتمال إخلائها أكثر من نصف مليون مستوطن يعيشون حالياً وراء حُدود عام 1967، وفق الأكاديمي الأميركي إيان لوستيك.
من المنطقيّ التساؤل عن الهدف وراء تهويل (وتضخيم) الحالة الفلسطينية المُقاوِمة في مخيّمات شمالي الضفة، والتساؤل عن انجرار السلطة الفلسطينية وراء هذا التضخيم وتعزيزه، بدلاً من أن تلجأ إلى تبنّي هذه الحالة المُقاوِمة والبناء عليها بما يُعيد تشكيل رؤية وطنيّة تدفع باتّجاه إنقاذ ما يُمكن إنقاذه في الحالة الفلسطينيّة المتردّية، خاصّة بعد أن أقرّ الكابينيت (الإسرائيلي) المصغّر سحب صلاحيات تنفيذية من السلطة في بعض مناطق جنوب الضفة، وشرعنة تجمّعات استيطانية جديدة، ومصادرة مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي، وتصويت الكنيست على رفض إقامة دولة فلسطينية، ما يعني ضمناً اعتبار اتفاق أوسلو منتهياً، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية المتعلّقة بتكدّس الشيكل، وعدم تحويل أموال المقاصّة.نهاية العامِ المنصرم 2024؛ استيقظت نواطيرُ رام الله، لا لتواجه جيش الاحتلال (بغضِّ النظر عن شكل المواجهة) الذي استباحَ كلَّ شبرٍ من الضفة الغربية المحتلة، وصادر مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي، واعتقل آلاف الفلسطينيين، وقتلَ مئات، بل لتقوم بحملةٍ أمنيةٍ ضدَّ مخيّم جنين، متذرّعة بمحاربة "خارجين على القانون"، الأمرُ الذي يستدعي أن نفكّر في المقدّمات التي أفضت إلى هذا الفعل.
والإجابةُ أنّ الأفعال الصادرة من مؤسّسة السلطة الفلسطينية، بوصفها مؤسّسةً ميّتةً وفاسدةً، هي تصرّفات تعبّر عن القناعات الحقيقية التي تؤمن بها القيادة الفلسطينية الحالية، فهي غير قادرة على التفكير، ولا ترغب في آنٍ معاً في تبنّي هذه الحالة والبناء عليها، والتوجّه بأيّ شكل إلى مصالحة وطنية شاملة. وعليه، لم يعد ممكناً استمرار شعور الفلسطينيين بالغرابة جراء أفعال قيادتهم، أو وصفها بالبؤس أو الضعف، فهذه القيادة تأخذ تاريخنا وحياتنا وموقفنا وصوتنا رهينةً لديها منذ أكثر من 20 عاماً، وتستعبدنا بذريعة احتكار تمثيلنا أمام مجتمعٍ دولي لا يرانا أصلاً، وأمام مجتمعٍ عربي لا يرى فيها إلّا "أربعين حرامي"، يبحثون عن مكاسب فرديّة، وهي لا تخجل من سنواتٍ راكمت ومأسست فيها الفشل والخسارة على صعيد الجغرافيا، وبنية الإنسان والمجتمع الفلسطينيين، الفلسطيني الذي قُلِب نظامه الاجتماعي وتغيّرت أولوياته، وأُقنِع بالطرق الأريحِ/ الأربح للنّضال.
ولم يعد مخجلاً القول إنّ أعنف قمع للمظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين كان في فلسطين، وإنّ حالات القتل الوحيدة لمتظاهرين من أجل فلسطين كانت في فلسطين، وصار علينا الاعتراف تماماً أنّ التجربة الفلسطينية أثبتت نجاحها ونجاعتها أكثر من حكومة فيشي الفرنسية، وأكثر من حكومة كرازاي الأفغانيّة، وإنّنا لم نعد أمام نظامٍ قمعيّ فاسد فقط، بل إنّنا أمام نظام وظيفي يسعى لتعميق دوره الوظيفي وإثبات كفاءته في شنق نفسه، أملاً بأن لا يطاوله استبدالٌ قد تفرضه الإدارة الأميركيّة الجديدة، أو قد يفرضه ضمّ الضفة الغربية.