تسكب نورا البطران دموعها في زاوية من خيمة نزوحها، كانت هي المكان الأخير الذي حاولت فيه منذ شهر تدفئة توأمها الرضيعين جمعة وعلي دون جدوى، إلى أن حرق أحدهما فؤادها باستشهاده بسبب الصقيع.
بيد مرتعشة، تمسك نورا بضع زجاجات كانت تملؤها بالماء المغلي، وتضعها إلى جوار جمعة وعلي، لتكسر موجة البرد التي ضربت عظامهما، لكنها الآن وصلت إلى لحظة الفراق الذي خشيت منه في ليالي المعاناة الطويلة.
"أجبرونا على النزوح من دارنا في شمال غزة، وأتينا هنا للبرد والشتاء والجوع..."، في خيمتها المهترئة التي لا تقيها حرارة الصيف، ولا برد الشتاء بدير البلح، تبكي نورا حال أسرتها التي فقدت أيضًا قبل عام رضيعًا آخر بسبب سوء التغذية، وانعدام قدرة والديه على توفير الحليب المخصص له، وسط حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وينفطر قلب والدي جمعة الذي ولد نازحًا إلى قطع متناثرة من الحزن، وهما يرقبان مصير شقيقه التوأم علي الذي يتلقى العناية الطبية في المستشفى في إثر تهديد الصقيع لحياته أيضًا.
ولا تدري نورا من أين تتلقى المصائب، وأين سيتكئ قلبها المنهار، مع استمرار تداعيات حرب الإبادة التي أدت إلى استشهاد رضيعين من أبنائها.
ولجأت نورا وأسرتها إلى خيمتهم الحالية المصنوعة يدويا ببعض أعمدة الخشب والقماش الممزق، لتعيش مرحلة نزوح قسري تغيب معها مقومات الحياة من المأوى والغذاء والدواء، وتحل بدلًا منها فواجع الفقد.
ويعاني في الخيمة ذاتها أبناؤها: محمود وأيمن وتيسير وماريا وغزل الذين يبلغ أكبرهم 18 عامًا، وأصغرهم سبعة أعوام، وجداهم المقعدان، من مأساوية ظروف العيش.
تفشل نورا في محاولات التماسك أمام حجم المصيبة، قائلة لـ"فلسطين أون لاين": "كنت أنام بعين واحدة.. وأراقب بالثانية الأولاد عشان ما يسيح البلاستيك وتيجي عليهم المية السخنة".
هو بركان من الأسى يعتصر مشاعرها، التي لا تعبر عنها الكلمات، فهذا الصقيع الذي قتل رضيعها جمعة لا يقوى عليه حتى الكبار، مع الحصار المشدد الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزة، ويمنع بموجبه المساعدات من الوصول إلى الغزيين المنهكين بتداعيات الحرب.
وحتى "نظام التدفئة" البدائي الذي لجأت نورا إليه، فشل في تخفيف حدة البرد عن أطفالها، مع انعدام البدائل.
وفي الصباح كانت تتفقد زجاجات المياه، خوفًا من أن يكون أحد أطفالها قد شرب الماء الذي غلته على الحطب، وتلوث بما يتطاير منه.
وتفتقر الأسرة إلى ما يكفيها من الملابس والبطانيات والفراش، مع كونها عرضة للمطر أيضًا، وعن ذلك تقول نورا: إن أحدًا من المؤسسات الدولية لم يقدم لي شيئًا، باستثناء بطانية وفرتها إحدى المؤسسات، لكن بعد فوات الأوان، واستشهاد جمعة.
وقبل ذلك، اضطرت الأم إلى استدانة 200 شيقل لشراء بعض الملابس لأبنائها.
"لا شادر ولا خيمة ولا بطانية ولا إشي توفر إلنا..."، هي صرخة أطلقها قلبها المحترق.
ووضعت نورا رضيعيها جمعة وعلي قبل نحو شهر، في ولادة مبكرة، وعانت في إرضاعهما بسبب سوء التغذية الذي تعاني منه، وتجمد طفليها، وعدم مقدرتهما ليلا على امتصاص الحليب.
واعترتها في الأيام السابقة المخاوف من تحقق "حلم" سردته ابنتها غزل بخلع أحد أسنانها، وهو ما فسرته حينها بأن أحدًا ما من أحبائها سيموت، وتحولت مخاوفها إلى واقع.
وفي ساحة المستشفى، يأكل الحزن والانتظار أعصاب الأب يحيى البطران، الذي يعيش على أمل استشفاء رضيعه علي.
وتعود بداية محطات نزوح يحيى وأسرته إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2023 من شمال قطاع غزة، عندما أجبره العدوان على ذلك برفقة والديه المسنين أيضًا.
وبعدما استقر مؤقتًا في إحدى المدارس، قصف الاحتلال فصلًا مجاورًا لمكان تواجده وأسرته، ما أدى إلى إصابة طفلته ماريا.
وبلا خيمة أو مقومات وجد البطران نفسه وأسرته في غمرة الحرب، إلى أن انتهى به المطاف فيما تشبه خيمة صنعها بيده، ولا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار.
ويعتصر الوجع قلبه أيضًا على استشهاد أقارب له في شمال القطاع، بجرائم إسرائيلية يستخدم فيها الاحتلال أعتى أنواع الأسلحة.
ولم يشفَ البطران وزوجته بعد من ألم فقد طفلهما محمد في بداية حرب الإبادة، حتى حلّت بهم هذه المصيبة الجديدة.
وجمعة هو الرضيع السادس الذي يستشهد في بضعة أيام في قطاع غزة بسبب الصقيع.
ومنذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، أصيب 108,090 مواطنًا واستشهد 45,484 آخرون معظمهم أطفال ونساء، بحسب وزارة الصحة.
وفي انتظار الخبر اليقين من الأطباء عن وضع طفلهما علي، يتقلب والداه على جمر الانتظار، ووجع الفقد، وقسوة واقع العيش.