ظلّت آراء الجمهور في الكيان الإسرائيلي، طوال العام الأول من حرب الإبادة في غزة، تحثّ الحكومة على إعلان الحرب على لبنان، وكان آخر استطلاع إسرائيلي، قد كرّس هذا المعنى قبل الهجوم البري على لبنان في أوّل تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما عبّر 67% من الإسرائيليين عن رأيهم بضرورة الحرب على لبنان للقضاء على حزب الله، فيما تغيّر هذا الحال بعد الهجوم البري عندما دخل هذا الجمهور في انقسام حادّ وعميق بهذا الخصوص.
سبق لـ "الجيش" الإسرائيلي أن حدّد فترة زمنية يستغرقها هجومه البري على لبنان، ضمن أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ليضمن خلالها إجبار حزب الله على وقف هجماته الصاروخية على شمال فلسطين في أقلّ الأحوال، ناهيك عن تفكيك بنية حزب الله ونزع سلاحه وإعادته خلف نهر الليطاني، وهي الهجمات التي هجّرت عشرات الآلاف من الإسرائيليين من مستوطناتهم العقائدية منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما وضع "الجيش" والمستوى السياسي الإسرائيلي في حرج أمام العجز تجاه هذا النزوح الجماعي، رغم عمليات الاغتيال الإسرائيلية المتعاقبة في العمق اللبناني.
تعثّرت الهجمات البرية الإسرائيلية في قرى الحافة اللبنانية تعثّراً لافتاً، في ظلّ عجزها عن تثبيت أي وجود لها في هذه القرى، بل عدم قدرتها على احتلال أي قرية لبنانية من هذه القرى الصغيرة بشكل كامل، وإن نجحت بنسف كثير من بيوتها بالتسلل إلى أطرافها، خاصة عبر امتداد سهليّ قبالة مدينة الخيام في عمق 2 كم، وهو التسلل الذي وضع خاتمة للهجمات، مع تراجع كلّ قوات الاحتلال من كلّ أطراف القطاعات الثلاثة الأوسط والشرقي والغربي تحت النار اللبنانية المتواصلة، بموازاة تصاعد القصف الصاروخي بعيد المدى حتى جنوبيّ "تل أبيب" وحيفا كمّاً ونوعاً.
انحدر التأييد الشعبي للمستوطنين للحرب على لبنان من 67% قبل العملية البرية، ليصل إلى 46% بعدها، والسبب لا يخفى وهو أنّ صلابة قوات حزب الله في ظلّ صمود الحاضنة الشعبية اللبنانية مع سلامة الموقف السياسي اللبناني، أدخل المزاج الإسرائيلي في انقسام وقد تعكّر معه شعور النشوة والغطرسة بعد تفجيرات البيجر واغتيال قيادات حزب الله.
وسط جلبة التراجعات الإسرائيلية الميدانية والشعبية، خرج وزير الحرب الإسرائيلي الجديد، يسرائيل كاتس، ليعلن هزيمة حزب الله، هكذا بجرّة قلم واحدة، ليأتي الردّ عليه من وسط هذا الجمهور الهارب من ملجأ إلى ملجأ، هناك في "كريات آتا" عندما سخرت إحدى المستوطنات مما أسمته التصريحات المضحكة للوزير الجديد، وقد اعتبرتها تصريحات منفصلة عن الواقع، فيما تساءل مستوطن من "كريات يام"؛ أين النصر على حزب الله؟ وكيف لمنظمة مهزومة أن تطلق 90 صاروخاً في نصف ساعة؟ ثم يختم هذا المستوطن قائلاً؛ يجب ألا يبيعنا أحد القصص الموهومة عن الانتصارات.
أمّا رئيس بلدية حيفا، يونا ياهف؛ والتي توعّدها حزب الله أن يجعلها مثل "كريات شمونة"، فقد أعلن أن مدينته تواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة بسبب تصاعد القصف اللبناني، قائلاً: "كلّ شيء متوقّف، والشوارع خالية، والمحال التجارية مغلقة"، مشيراً إلى أن الاقتصاد في المدينة ينهار بشكل حاد، وهو ما سيؤثّر سلباً على أنحاء "إسرائيل" كافة، وتحدّث للإعلام الإسرائيلي عمّا وصفه بـ "جنون في خليج حيفا" بعد أن أطلق حزب الله نحو 100 صاروخ في اتجاه "مجمع الكريوت" هذا الثلاثاء، ما أثّر بشكل كبير على الأنشطة الاقتصادية في عموم الشمال.
وفي تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أشارت الصحيفة إلى أنّ أكثر من 80% من أصحاب المشاريع الصغيرة في الجليل الشرقي والجولان يعانون من انخفاض حاد في الدخل منذ بداية الحرب، حيث يعاني نصفهم من انخفاض يفوق 65% في إيراداتهم. وتستمر تأثيرات الحرب في شلّ حركة الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة في المنطقة، وبحسب المعطيات، بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وآب/أغسطس 2024، دفعت السلطات الإسرائيلية تعويضات تقدّر بنحو 4.4 مليارات شيكل (أكثر من مليار دولار أميركي) بسبب الأضرار غير المباشرة التي تكبّدتها الشركات في الشمال، وهو رقم لا يشمل الأضرار المباشرة الناتجة عن الهجمات الصاروخية والطائرات من دون طيار.
جاء الإعلان الإسرائيلي عن إطلاق عملية برية ثانية في لبنان، لتطال البلدات اللبنانية الأكبر ما يتجاوز بنت جبيل والخيام، مع الإشارة أن مهام كثيرة لم يتمّ إنجازها بعد، تعبيراً ضمنياً عن فشل العملية الأولى وهي لم تنتج سوى تفجير بعض البيوت والأنفاق وقتل بعض المقاومين، مع أسر بعض اللبنانيين الذين قيل إنهم من حزب الله، في مقابل توسّع دائرة القصف ليغدو معها قصف حيفا بل "تل أبيب" خبراً شبه اعتيادي، مع سقوط قتلى وجرحى من المستوطنين بشكل يومي آخرهم في نهاريا، والأهم مقتل نحو 100 جندي وإصابة قرابة 1000 مع تدمير نحو 60 دبابة وجرّافة وآلية وطائرات مسيّرة كبيرة، ضمن اعترافات إسرائيلية غير مسبوقة منذ بدء المواجهة قبل أكثر من عام.
يشعر جمهور المستوطنين بخيبة أمل كبيرة، تجاه فشل الهجمات البرية بعد استنفاد مخزون النجاح في الاغتيالات، وهو مخزون بدأت آثاره تتلاشى مع كلّ متر من تراب لبنان، اختلطت فيه دماء قوات النخبة الإسرائيلية من "إيجوز" حتى "سيرت متكال"، وقد اعتاد على رؤية المركافاة تتقدّم في حروب "إسرائيل" السابقة، حتى في حرب 2006 توغّلت في عمق الجنوب، رغم ما واجهته من ضربات عنيفة أجبرتها بعد شهر على الانسحاب.
تستخدم "إسرائيل" اليوم قوة نارية أعظم من حرب عام 2006 في ظلّ نجاحات أمنية سبقتها، ولكنها تفشل على الأرض طوال شهر ونصف الشهر في أيّ تقدّم حقيقي ذي بال، وهو تقدّم طبيعي إن حصل في مرحلة ما، وليست العبرة فيه حينها، ولكن في مدى تحقيق أهدافه التي توعّدها سماحة الشيخ نعيم قاسم ومن قبله سماحة السيد حسن نصر الله أن تتحطّم على صخرة الرضوان، وهي تنفلق بالغضب عندما تدمّر وحدات كاملة من أجيال هذه الدبابات في وديان الجنوب وهضابه المزنّرة بالمفاجآت.
مفاجآت الميدان تعصف باستطلاعات الرأي الإسرائيلية، وهي تنحسر بالتدريج نحو قلّة متشنّجة تؤيّد الحرب، فيما سيمتدّ بكاء سموتريتش وهو ينتقل بين الجنازات، ليخلق واقعاً محبطاً مع تكريس حالة الإذلال النفسي، خاصة عندما يتجاوز حزب الله تكتيكاته الميدانية ومحدّداته العملياتيه الراهنة على أهميتها، بعمليات أسر أو إسقاط طائرات مروحية أو توغّل مضاد أو اغتيالات نوعية، ما يبدّد كلّ الإنجازات الإسرائيلية الموهومة، ويكسر موجة الحرب الإسرائيلية ليفرض كامل شروطه المعزّزة بصمود غزة وعنفوان كمائنها.