تتربع النازحة جمالات وادي وسط أرض محترقة كقلبها المنفطر على نجلها الوحيد من الذكور "محمد"، وتحاول دون جدوى وقف سيل دموعها المنهمرة من عينين سكن فيهما الحزن طويلاً.
وهذه الأرض هي إحدى ساحات مستشفى شهداء الأقصى التي كانت مسرحاً لجريمة إسرائيلية، أحرقت في أكتوبر/تشرين الأول نازحين أحياء، وعشرات الخيام، ونكأت جرح جمالات المثقلة بصنوف المعاناة على فلذة كبدها الذي لم تعلم مصيره لثلاثة أشهر.
"اااه يما.."، تلك صرخة أطلقتها الخمسينية جمالات قهراً من تقلب أحوالها بين فقد وفراق وضنك عيش وانعدام مأوى، بسبب حرب الإبادة الجماعية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبدأت فصول المعاناة تنسج شباكها حول جمالات عندما أجبرها القصف المكثف على النزوح مع بناتها السبعة وابنها الوحيد من منزلهم في حي الشجاعية إلى حي تل الهوا بمدينة غزة قبل نحو عام.
لكن ذلك لم يكن سوى المحطة الأولى في رحلة نزوح قسري لا يزال جاثما على صدرها، ويكاد يكتم أنفاسها كأنما تصعد إلى السماء.
واستقر الحال بجمالات وأسرتها في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح منذ نحو سبعة أشهر قادمة من خانيونس التي نزحت إليها بعد حي تل الهوا.
"اخترت المستشفى ولم أتوجه إلى المدارس لأنها عرضة للقصف"، تقول جمالات لـ"فلسطين أون لاين"، لكن ظنها خاب بعدما استهدفت طائرات الاحتلال مستشفى شهداء الأقصى سبع مرات منذ أن نزحت إلى إحدى ساحاتها.
بيد أن الغارة الأكثر تأثيرا في نفس جمالات كانت بمثابة "محرقة" لنازحين وخيامهم في المستشفى في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وعادت جمالات وأسرتها إلى نقطة الصفر مجددا في تدبير الحد الأدنى من مستلزمات الحياة، بعدما احترقت خيمتهم ومقتنياتهم، لكن هذه المرة دون أن يكون محمد حاضرا لمساندة أهله.
كانت هي في قلب "المحرقة" التي نجت منها بأعجوبة مع بناتها باستثناء إحداهن التي أصيبت بحروق طفيفة.
توقد جمالات نارا على أنقاض خيمتها لغلي بعض الماء، قائلة: ليلة القصف عند الواحدة و10 دقائق سمعت فجأة صوت انفجار، وشممت رائحة الدخان المنبعث منه، وفزعنا من الغارة التي لم تبعد عنا سوى بضعة أمتار.
تحاول كفكة دموعها، مضيفة بصوت متحشرج: وجدت النار هائجة وصرخت "يما.. يما.."، وناديت بناتي وحفيدتي ذات العامين للفرار من الحريق الذي يأكل ما في طريقه.
لكن جمالات شاهدت نازحين يحترقون أحياء وهم يتحركون، دون أن تستطيع إسعافهم.
"نحن ضحايا، انحرقت الخيمة والله سترنا وكل حالنا انحرق، انصهر النايلون علينا"، بنبرة باكية تتابع كلامها.
وحتى نسخ القرآن الكريم لم تسلم من الحرق، بعدما عمل بنات جمالات على حفظ أجزاء منها غيبا.
وزاد ذلك الأعباء الملقاة على عاتق الأم التي ترعى أيضا حفيدتها منذ استشهاد أبيها في قصف إسرائيلي لمنزله ببيت حانون شمال قطاع غزة قبل عام.
وفي شهر رمضان الفائت سلك نجلها محمد شارع صلاح الدين برفقة مجموعة من الشبان بغية التوجه من دير البلح إلى مدينة غزة مستثمرا حالة جوية يسودها الضباب، في تحد للاحتلال الذي يمنع عودة النازحين، لكن أمه فقدت آثاره لثلاثة أشهر.
وظل قلب جمالات يتفتت تحت صخرة الحيرة والقلق والفراق طيلة تلك المدة، وهي تلهث وراء أمل أن يكون ابنها على قيد الحياة.
ينسكب الألم من عيني والدته وهي التي لا تفارقها صورته وكلماته ومشاعره، قائلة: ظننت أنه أسير، إلى أن أبلغني أسير محرر كان برفقته أنه رأى محمدا وقلبه على ظهره ووجده مصابا برصاصتين أدتا إلى استشهاده.
بأسى تضيف: لم أره ولم أودعه أو أدفنه، واصفة ابنها ذا الـ24 عاما بأنه قريب للقلوب، وأحبه كل من رآه.
وتواسي جمالات أمهات الشهداء بأنهن دفن أبناءهن لكنها هي حرمت من ذلك.
وقصم نبأ استشهاد محمد ظهر والدته التي كانت "تتوكأ" عليه في مواجهة مشاق الحياة، ليس لكونه الوحيد فقط، ولكن لأنها فقدت والدها وعمها وأخاها وأولاد أخيها شهداء أيضا، وقد حرمها الاحتلال منزلها بتدميره، وخيمة نزوحها بحرقها.
وستظل جمالات في حلقة مغلقة من النزوح والحزن على فقد ابنها الوحيد، كنار تلتهم روحها بصمت.