فلسطين أون لاين

"علمٌ وحياة".. يدُ معلمات ذوات خبرة لجيل أرهقه النّزوح

...
الزوايدة/ فاطمة حمدان

لم تكن الحرب "الإسرائيلية" الحالية على غزة كغيرها من الحروب السابقة، فقد قضت على الحجر والشجر وأغلقت المدارس وجعلت مسيرة التعليم أمرا من المستحيل بمكان استمرارها في ظل انعدام الأمان واكتظاظ المدارس بالنازحين بحيث لم يعد هناك متّسع لإقامة أي نشاط تعليمي، لكن شوق المعلمتين دعاء عبد اللطيف وآلاء حسونة للصف المدرسي وحزنهن لما آل إليه حال طلاب المدارس جعلهما تبادران لإعادة الطلاب لمقاعد الدراسة في خيام النزوح.

استكمال الحياة  

ففي خيمة تفتقر الأجواء الدراسية الاعتيادية لا تفوت الطفلة حلا أبو رومية أي موعد للدروس، رغبة منها في  التعلم لتحقق حلم والدتها الشهيدة التي كانت تحلم بأن تراها متفوقة وتحصد أعلى الدرجات. 

لكن حرب الاحتلال حرمت أبو رومية من والديها وجميع أشقائها قبل أن تدرس حتى في الصف الأول، لتجد في مبادرة علم وحياة مبتغاها حيث تتعلم منهاج الصف الأول على يد معلمة تحبها ، وتحقق طموحها بأن تكون مجتهدة في دراستها . 

وتخص معلمتها في المبادرة حلا بدعم نفسي كبير ودروس إضافية ووقت أكبر لمساعدتها على التخطي واستكمال الحياة. 

أما أم علي ارحيم فتحرص على اصطحاب ابنائها من وإلى المبادرة يوميا رغم القلق والخوف، الذي يعتريها عليهم بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة، تقول :"أشعر بالامتنان الشديد لهذه المبادرة أرى فرحة أبنائي ورغبتهم الكبيرة تجاه الدراسة في ظل تعذر اتصالنا بالإنترنت لمتابعة ما تنشره وزارة التربية والتعليم من مواد تعليمية، فالتواصل الوجاهي لأبنائنا مع ثلة رائعة من المعلمات أعاد الأمل في نفوسهم والفرحة لقلوبهم". 

وتستدرك بالقول:" أوصل أبنائي في مواعيد صفوفهم ثم آتي في موعد العودة لأرافقهم في الطريق فكمية القلق والخوف الذي نعيشه كبير ولكن علينا أن نبذل كل ما نستطيع ليبقى أبناؤنا يمارسون حقهم الطبيعي في الحصول على التعليم ويكفي ما سلب منهم من حقوق عنوة وظلما. 

رغبة جامحة 

تقول المعلمة دعاء عبد اللطيف:" نحن كأهل قطاع غزة عشنا الصعاب واحداً تلو الآخر من حصار وانقسام وتصعيدات عسكرية مختلفة وحروب ما تلبث أن تنتهي حتى تبدأ من جديد". 

وتضيف:" في كل مرة على صعيد المدراس والعملية التعليمية كنا ننطلق بمجرد انتهاء العدوان نلملم ما تبقى من قوانا ونقف بشموخ وسط ساحات مدارسنا نعلن عودتنا للتعليم المتزامن مع سلسلة تفريغ نفسي للطلاب نهيئ نفسياتهم للعودة لمقاعد الدراسة". 

ولكن هذا العدوان كان مختلفًا فقد كنت أصحح اختبار الشهر الأول في العام الدراسي الأول، رغم أن الأوضاع كانت صعبة وكان واضحًا أننا سنضطر لمغادرة المنزل، فحرصت على أن أتمّ رصد الدرجات على موقع الوزارة قبل المغادرة آملة أن العودة قريبة وحينها يجب أن نكون جاهزين لاستكمال العام الدراسي بعزيمة وإصرار. 

ثم تغير حال عبد اللطيف كغيرها من أبناء قطاع غزة فنزوح تلو نزوح وبُعد يليه بعد أكبر،" بعُدت المسافات وطالت المدة، وطال الدمار كل شيء البيوت الشوارع المستشفيات والمدارس، طال الخراب كل شيء إلا أرواحنا وعزيمتنا". 

وتقول:"أمل العودة إلى المدارس بدأ يتضاءل تدريجياً في نفوسنا إذ أن المدارس التي سلمت من القصف والدمار على قلتها باتت مأوى لآلاف النازحين الذين فقدوا بيوتهم مما أخرجها عن الخدمة أيضاً لمدة طويلة". 

وتتابع بالقول:"وبعد عام كامل من الوجع والألم والدماء رأيت وصديقتي آلاء حسونة أننا أمام خيارين إما أن نكون على قدر مسئوليتنا المجتمعية كمعلمات للجيل نقف كما وقفنا دائماً نصنع المستحيل وننطلق بالجيل من نفق ظلمات أُريد له أن يدخله عن سبق تخطيط وإما أن نؤثر الاستسلام لمشاعر حزن لا منتهية نعلن بها وفاتنا ووفاة جيل كامل وإن كان على قيد الحياة". 

وأطلقت عبد اللطيف وصديقتها مبادرة "علم وحياة" لتكون انطلاقة تعليم مجتمعية من قلب النيران وتحت أزيز طائرات العدوان وقصفه وليس بعد انتهائه، انطلقت المبادرة من حاجة المجتمع الملحة للتعليم رغم تفكك عناصر المنظومة التعليمية كاملة بدءاَ من سياساتها العامة وليس انتهاء بالغياب القسري لصناع القرار عن المشهد. 

وتمضي بالقول:" لم يكن نجاح الأمر متخيلاً حتى بدأنا بالإعلان عن استقبال مجموعة طلبة المخيم وإذا بكل الطلاب المحيطين بنا يتوافدون علينا يومياً وبأعداد كبيرة، لم يكن التوافد مقتصراً على الطلاب بل زارنا مجموعة كبيرة من المعلمات والمعلمين المستعدين للتطوع معنا بدون أي مقابل". 

ولكثرة الإقبال اضطر المبادرون لزيادة أعداد الطلاب المقبولة وساعات العمل اليومية "فأصبحنا نستقبل الفئة العمرية الواحدة ثلاث ساعات في اليوم الواحد ثلاثة أيام في الأسبوع، نخجل من عطاء المعلمين إذ لا أبالغ لو قلت أن كل الحصص حصصاً نموذجية يستخدم فيها المعلمون كل ما أتيح لهم من وسائل تعليمية يتشارك الطلاب والمعلم في إنجازها من أبسط المواد الموجودة".

وتلفت عبد اللطيف إلى أن رغبة الطالب في التعلم لا تبدو أبداً أقل من رغبة المعلم في العطاء مما يجعل من كل حصة لوحة فنية تشاركية لطالما كان الوصول لهذا التشارك المنجز هدفاً منشوداً لكل القائمين على العملية التعليمية. 

لكن الحال لا يبدو ورديًا، "فهذا التناغم والإنجاز الكبير في الحصص اليومية لا يقارن بما يجب أن يكون عليه الحال فالجميع يعمل تحت نزوح يحمل في طياته أقسى مشاعر القهر والخذلان يأتي الطالب مستعجلا بعد إنهائه المهام اليومية من تعبئة مياه وجمع حطب وخلافه من المهام التي أصبحت منوطة به دون غيره من أطفال العالم، ويأتي المعلم من ذات ظروف العجز والقهر متفهماً ما يمر به الطلاب جميعاً دون استثناء". 

وفي داخل الخيمة يجلس الجميع في حلقات على الأرض، "حلقات تعكس إصرار البقاء المتأصل في داخل النفوس وتشعل في القلب لهيباً من الحزن أن ليس هذا ما كنا نأمل ولا ما كان أطفالنا يستحقونه من حياة، يستطيع المتابع أن يسجّل كل لوحات الأسى من صور الأطفال أثناء الحصص، لكنه على الصعيد الآخر يستطيع أن يرصد أسمى معاني الصمود والتحدي وصناعة الحياة. 

وتشير عبد اللطيف إلى أنه لحقت بركب المبادرة بعض مؤسسات المجتمع المدني وبعض آخر من فرق الشباب المتطوع حيث وفرت مؤسسة ثماني طاولات وسبورة بينما تبرع فريق شبابي بسبورة أخرى، وفريق آخر أسعد قلوب جزء من الطلاب بقرطاسية، والعديد من أنشطة الدعم النفسي والأنشطة الترفيهية للطلاب باستمرار. 

ففي كل صباح يكون المخيم كخلية نحل لا تهدأ، يجمع الشباب الكراسي والطاولات المتوفرة في الخيام، تجهز النساء الخيام المخصصة للتعليم، يحضر الفريق الأدوات اللوجستية اللازمة تستقبل المعلمات الطلاب بحب كبير ليرتفع السلام الوطني في تمام الساعة الثامنة معلناً يوماً دراسياً جديداً.