عندما رأيتُ غزة في 2011 في زيارتي اليتيمة لها، تدفقتْ فجأة شلالات الدهشة من أعلى حنينٍ مَرّ عبري كنهر من جيلٍ ضيّعوا منه الوطن إلى جيلٍ معلقٍ بلا وطن، كل شيء في غزة امتلك كادراً لوحده من شدة تأثيره، حتى حبة الرمل استحقت أن نرفعها في صورة أبدية بكادرٍ يعانقها لشدة ما فيها من حكايا، كل شيءٍ في غزة كان بالنسبة لي مادة إعلامية توثيقية، تجد نفسك في مكانٍ يتلاقى فيه الأزل التاريخي مع الأبد الملحمي، كل شيءٍ في غزة ناداني لأكتب عنه كي لا أنساه أنا شخصياً، وأن أصوره كي لا ينساه أحبابي.
كانت الكائنات من بشرٍ ودورٍ وطرقاتٍ أحجارٍ وإطلالات؛ تأتيني كل صباحٍ لتشرب معي كوب الشاي بالمريمية تحت شجرة الليمون المزهرة في بيت حانون، تصاحبتُ مع الدلالات وتصالحت مع الإشكاليات، حكتْ لي وحكيتُ لها، ولكني لم أستسلم لساحرية جلوسي تحت الشجرة، وألحت عليّ مهنتي في الإعلام أن أجوب قطاع غزة الصغير كرحّالٍ يبحث عن معشوقته، وبدأت بتشغيل استشعارات الصحفي لأتتبع أصحاب المهنة ومؤسساته، عملت بالفعل مع بعضهم في كتابة وإخراج الأشرطة الوثائقية التاريخية، وشد انتباهي كثيراً أثناء تجوالي؛ ذاك الكم من الشباب والشابات الراغبين بدراسة الإعلام، والممتهنين للكثير من مهاراته كالتصوير والمونتاج والإضاءة والصوت والكتابة الصحفية، بصراحة كانت أيديهم تُلفّ بالحرير من شدة مهارتهم، كنت أقيس بمسطرة الواقع أن عددهم كبيرٍ أكبر من حاجة سوق العمل، حيث أمكنني القول أن نسبة ممارسي الإعلام في قطاع غزة ذاك الوقت كانت الأكبر بالنسبة للمساحة وبالنسبة لعدد السكان، وهذا موضوعٌ كان يستحق الدراسة بالفعل، فاندفاع سيل الرغبات في تعلم الإعلام، شجع المؤسسات الأكاديمية من جامعاتٍ ومعاهد إلى فتح أقسامٍ مختلفة للإعلام، كما فُتحت مراكز تدريبٍ في مجالات الإعلام في غزة لمؤسسات من خارج القطاع، لكن استغرابي تلاشى الآن بعد أن آمنت أن الله يعدّ لشيء عظيم.
في حرب الإبادة الحالية حُرمَ صحافيو وكالات العالم من تغطية الأحداث غير المسبوقة في القطاع، في محاولة من العدو المجرم أن يعزل القطاع ويستفرد به، تخيلوا معي لو لم يولد صحافيون شباب من أهل غزة، كيف ستكون قراءة المشاهد؟، الإجابة ببساطة؛ سيدخل القطاع في إظلامٍ إعلامي تام، وستنتصر آلة الإعلام الصهيونية المشبوهة، التي ستعمل على سيطرة روايتهم وإسكات بل واغتيال روايتنا، لكني قلت آنفاً؛ لكم أن الله كان يعدّ لشيءٍ عظيم سخر له كل هذه الأعداد من الصحافيين البارعين، ومن هنا جاء تبجيلي للآيات الكريمة التي ذكر الله فيها كلمة (يدبر الأمر) يدبر الأمر ، لقد تكررت في كتاب الله 4 مرات، كأنها 4 أركانٍ للحقيقة:
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس : 3]
{وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس : 31]
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد : 2]
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة : 5]
وردت آيات (يدبّر الأمر) ضمن سياق الأحداث العظيمة، كخلق السموات والأرض، ولحدوث العروج، أي الانعطافة المحققة أثناء الصعود، ولعمري لقد كان الله يمهد لهذه الأحداث العظيمة، حتى تهيأ سلاح الإعلام وفاق كل المؤسسات العالمية الضّخمة المسيطرة على عقول العالم، لقد لعب (إعلام المقاومة)، بل و(المقاومة بالإعلام)، دوراً تاريخياً في التحكم بموازين القوى في الميدان، لقد انتصر إعلامنا أيها السادة، فرواية المقاومة أصرت بوعي قيادي فذ أن تكون موثقة بالفيديوات البليغة، وصار المصور والرامي من أهم اثنين في فريق العمليات العسكرية ضد العدو، فكانت الصورة القيمة العسكرية الأهم التي وثقت المواقف الشجاعة لنا والخسائر الفادحة لهم، حتى أن الميركافات ركعت تحت عدسات كاميراتنا، أما بياناتهم المجوفة التي يسردون فيها أنهم دمروا مكامن للمقاومة وقتلوا الآلاف منهم سرعان ما تتبخر بمجرد انتهاء تصريحهم العسكري الصحفي، حتى أن الرأي العام الأوعي من ذي قبل صار يطالبهم بالأدلة، ولا من أدلةٍ لهم ولا براهين، لقد رسبوا في امتحان الإعلام.
على السطح وثق إعلاميونا حرب الإبادة شهيداً شهيداً، وقذيفةً قذيفة، ومذبحةً مذبحة، فتعرى المجرمون، وتقاطرت القلوب الحية في العالم لإدانة الصهاينة المجرمين، وتقديم أدلتهم للمؤسسات القضائية الدولية، بأدلة واثقة وموثوقة وموثّقة، وما تلك الأدلة سوى المواد الإعلامية التي أنتجها الصحافيين الفلسطينيين الشباب الذين أعدهم الله لهذه الحرب، ليكونوا جنداً من جنوده.
إن استشهاد أكثر من 176 في مذبحة للإعلاميين لم تحدث في التاريخ، وهذا الفعل المجرم جاء دليلاً صارخاً على أن الآلة الإعلامية الصهيونية بدأت تفقد وسائل إقناعها، وكان لا بد من الانتقام من مهندسي الخطط الإعلامية ومنفذينها، مِن مَن وضعوا دلالات جديدة عميقة لكلمة (جاء الحق) فالإعلام الفلسطيني: حقٌ قد جاء قوياً لينتصر، وتحققت من خلالاهم أيضاً عبارة (زهق الباطل) لأن أخطبوط الإعلام الصهيوني العالمي بدأ يزهق تحت إعصار فقدان الأدلة والفشل في إقناع العقول، ويفقد عدداً من أذرعه.
لم يكن الإعلاميون الفلسطينيون مجرد موظفين أو موهوبين، بل كانوا رسلاً فعليين لإظهار الحق وزهوق الباطل في مرحلة تاريخية هي الأصعب على شعبنا، لذلك فإن دمهم مثل دم الرسل مقدسٌ كرسالتهم، إن دمَ الإعلاميين الفلسطينيين الشهداء قد غادر دار الفناء ليجري في شرايين البقاء والمجد. لتظل حقيقة وجودنا وبقائنا أسطع من الشمس.
وبلغة شعرية أقتطف من إحدى قصائدي (صحافيون):
"صحافيون
نعرفُ كيف نخطف لقطةً للحُب
أو لرصاصةٍ في القلب
أو لقصيدةٍ مذبوحةٍ في الدرب
نعرف كيف نسحب من يديّ الريح عنواناً لمذبحةٍ تلاحقنا
ونعرف كيف نمحقها
وكيف تكون أحرفنا نهايتها
صحافيون نخطفُ من أتون الشمس ضحكتنا
ونقدرُ أن نعيد مدارَها المسلوبَ في خبرٍ يثير الرأي عن ميعاد طلعتها
فنخرجُ من عباءتها