لا البابا فرانسيس الحبر الأعظم للفاتيكان، ولا حتى زيلينكسي أوكرانيا، ولا أيّ من قادة أقرب الحلفاء لواشنطن من اليابان إلى القارتين الأمريكيتين، حظي بما يمنحه الكونغرس الأمريكي لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حين يلقى خطابه الرابع أمام الجلسة المشتركة لمجلسيه (النواب والشيوخ)، المقررة غدًا 24 يوليو/تموز 2024.
بعد ساعات يتفوق، الملطخة يداه بدماء الفلسطينيين الأبرياء، المطلوب للعدالة الدولية لكونه مجرم حرب ومدان بأسوأ إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين هي الإبادة المستمرة بغزة، على رئيس الحكومة البريطانية تشرشل بطل انتصار حلفاء الحرب العالمية الثانية، أحد أيقونات القرن العشرين، الذي ظل مضرب المثل في احتفاء الكونغرس بالعظماء، فاستقبله للخطابة ثلاث مرات أعوام: 41 و43 و1952.
الخطاب الرابع لنتنياهو، جاء بمبادرة مشتركة من نواب بالحزبين الديمقراطي والجمهوري، انطلقت في مايو/أيار الماضي، أي خلال حرب الإبادة على غزة، وليس قبلها. ولكنه هذه المرة يأتي في سياق وبيئة سياسية أكثر تعقيدًا مقارنة بما سبق في 1996 و2011 و2015. ومن ملامح تميز هذه البيئة:
ـ معارضة كبيرة وغير مسبوقة من داخل الكونغرس نفسه، على خلفية استمرار الحرب على غزة، والمعلن أن يقاطع الجلسة 100 معظمهم أعضاء “بالكتلة التقدمية” بين الديمقراطيين من إجمالي النواب والشيوخ الـ535، بما يتجاوز مقاطعة نحو 60 لخطاب 2015.
ولا يُـستبعد حدوث احتجاجات داخل القاعة خلال الخطاب، ستواجه على الأرجح بالإبعاد عنوة، كما جرى مع نائبة وحيدة عام 2011 في الدقيقة 5:20 من الخطاب.
أضف إلى هذا رسالة الاحتجاج الموقعة من 230 موظفا بالكونغرس الأربعاء الماضي، التي تصف استقبال نتنياهو بأنه عمل غير أخلاقي مشين.
ـ تعبئة جماهيرية كبيرة للتظاهر حول مقر الكونغرس (الكابيتول)، وفي عموم الولايات الأمريكية، تطالب بوقف الحرب، وتدين مجرمها وعصابته والصهيونية، وتستدعي عبارة “فلسطين من النهر إلى البحر”، التي أصبحت حاضرة في الفضاءات العامة بأمريكا وأوروبا منذ حدث 7 أكتوبر.
ـ معارضة لافتة من يهود أمريكيين، وسط انقسام أكبر اتجاه الصهيونية وإرهابها. وفي هذا كتب أفنوعام بار يوسف الرئيس الفخري لمعهد سياسة الشعب اليهودي، والمدير السابق لمكتب صحيفة معاريف في واشنطن بموقع وكالة الأنباء اليهودية في 16 يوليو/تموز 2024: “أصبح خطاب نتنياهو يمثل تحديًا للجالية اليهودية الأمريكية، ويعمق أزمتها غير المسبوقة؛ مما قد يؤثر في هوية الجيل الشاب من يهود أمريكا الشمالية”.
بطة عرجاء وجراح مفتوحة
ـ هذه هي المرة الثانية، بعد سابقة 1996، التي يخطب نتنياهو بالكونغرس في سياق الاستعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية. لكن شبهة الاستغلال المتبادل أمريكيًّا وإسرائيليًّا للمنافسة التقليدية بين الجمهوريين والديمقراطيين والاستثمار الداخلي في دعم تل أبيب تجري الآن مع انقسام داخل الحزب الديمقراطي حول سياسة إدارة بايدن إزاء الإبادة في غزة وتسليح جيش الإرهاب الصهيوني.
وقد تسمح أوضاع الحزبين بمزيد من المزايدات والاستجابة للابتزاز الصهيوني. فعلاوة على حالة “البطة العرجاء”، التي ستصيب إدارة بايدن فيما بقي من ولايته مع أغلبية جمهورية بالكونغرس، يبدأ حزبه الديمقراطي للتو ترميم وحدته حول مرشحته المحتملة كامالا هاريس، وذلك إثر التراجع الكارثي في التبرعات والمتبرعين لحملة الرئيس العجوز المعتلّ صحيًّا قبل تخليه عن الترشح.
أما الحزب الجمهوري فيتقدم لانتخابات 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بمرشحه ترامب، وهو مفتوح الجراح للطعن في نزاهته جراء 34 حكما قضائيا تدينه بأوجه عديدة من الفساد.
ـ انقسام آخر غير مسبوق داخل إسرائيل ونخبتها الحاكمة إزاء مماطلة نتنياهو في وقف الحرب، وإنجاز صفقة تطلق سراح المختطفين الإسرائيليين لدى المقاومة/ حماس.
وهل كان متصورًا أن يُقدِم ساسة كبار معارضون على نشر رسالة جماعية في النيويورك تايمز، تدعو إلى إلغاء استقبال الكونغرس لرئيس الحكومة؟ أو أن تمتنع بعض أسر الأسرى عن مصاحبته خلال الخطاب؟ فضلًا عن تفجر الخلافات علنًا بين الحكومة ورئيسها وبين قادة الجيش والأجهزة الأمنية المخابراتية.
خبرة الخطابات السابقة
تتيح مشاهدة التسجيلات الكاملة للخطابات الثلاثة السابقة، المتوافرة جميعها لحسن الحظ بالإنترنت، ملاحظة ما قد يفيد عند قراءة أداء كل من الكونغرس ونتنياهو غدًا، وذلك على النحو التالي:
ـ بين خطابي 10 يوليو/تموز 1996 و3 مارس/آذار 2015 بدا أن نتنياهو قد اكتسب ثقةً زائدةً، انعكست على قدراته الإقناعية والاستعراضية، وتفاعله بالأداء الصوتي وبلغة الجسد مع جمهوره بالكونغرس.
ـ تتراوح مدة الخطابات الثلاثة السابقة بين نحو 30 و40 دقيقة، وكلها حافل بتصفيق استحسان وتأييد استثنائي. وكانت صحيفة البوليتيكو الأمريكية قد لاحظت 29 مقاطعة بالتصفيق خلال 32 دقيقة عند تغطيتها لخطاب نتنياهو الثاني 25 مايو/أيار 2011.
ـ التسويق المبالغ فيه لكلمة “السلام”، وكذا لتبني “حل الدولتين”، بوصفه تنازلًا من تيار الليكود اليميني، ولكن مع التصريح بشروط ولاءات تقوّض فرص ادعاء الهيام “بالسلام” وطلبه مع “هذا الحل”، وتحرج الأطراف الفلسطينية خاصة والعربية عامة الأكثر استعدادا للتنازل عن الحقوق.
ولكن غدًا يحضر رئيس الحكومة الإسرائيلية في الكونغرس، ومن موقع التحدي الصفيق للاعتراف المتزايد للدول الأوروبية الحليفة لواشنطن بدولة فلسطين، متحللا حتى من وهم حل “الدولتين”، وذلك بعد قرار الكنيست الخميس 19 يوليو/تموز برفض قيام دولة فلسطينية ولو عبر التفاوض.
ـ يترجم استقبال جمهور الكونغرس بتأييد شبه هستيري لمقاطع بعينها في الخطابات الثلاثة، القبول “بالعقيدة الصهيونية”، واعتناقها أيديولوجيا، ووفق الميثولوجيا التوراتية (القص الأسطوري)، وعلى حساب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وحتى الاتفاقات التي رعتها الإدارات الأمريكية وإعلاناتها عن “حل الدولتين”. وهو ما ينسف “دور وسيط المفاوضات”، ويناقض”المبادئ” التي تفاخر بها واشنطن، وتقول بأنها المؤسسة للولايات المتحدة.
ولطالما وافق جمهور كهذا مثل القطيع على لاءات نتنياهو ضد الانسحاب إلى حدود 4 يونيو/حزيران 1967، ووقف وإزالة الاستيطان في الضفة الغربية (بدعوى الميثولوجيا والحقائق الديموغرافية الجديدة على الأرض بعد 67 معا)، وتقسيم القدس وإعادة شرقها ومقدساتها إلى الفلسطينيين، وضد عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأرضهم، مع السماح بالمقابل لأي يهودي في العالم بالهجرة إلى “إسرائيل”.
ـ اللعب على “القيم المشتركة” مع أمريكا، وبخاصة الزعم بأن “إسرائيل الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط.
ويعكس خطاب 2011 على نحو خاص، بعد أشهر معدودة من انتفاضات الشعوب العربية، الرغبة في دوام الاستئثار إقليميا بوصف “الدولة الديمقراطية”، فمن جهة يرجح نتنياهو “عدم الاستقرار”، ويأسف لفقدان حكام وحكومات حليفة، ومن جهة أخرى يقول إن مليونًا واحدًا فقط من 300 مليون عربي يتمتعون بالحريات الديمقراطية، هم من سكان إسرائيل (فلسطين المحتلة 1948).
والمسكوت عنه هنا هو العنصرية الصهيونية لإسرائيل التي تقوض “ديمقراطيتها”، والدور الأمريكي الصهيوني في دعم الطغاة واستمرار الدكتاتوريات بالمنطقة.
اللعب على حبال.. الخطر الإيراني
ـ التحريض على إيران، والتخويف من قرب امتلاكها سلاحًا نوويًّا، عنصر مشترك مهم بالخطابات السابقة. لكنه بلغ الذروة مع الأخير، حتى بدا وكأنه مخصص لهذا الأمر وحده، ولأنه جاء قبل نحو شهر من اتفاق لوزان النووي مع طهران في 2 إبريل/نيسان 2015، فثمة تركيز لعرقلة التوصل إلى الاتفاق وللتشدد في التفاوض، مع الإبقاء على العقوبات وإحكامها.
أما المسكوت عنه هنا، وبلا كلمة واحدة بالخطابات الثلاثة، فيظل هو انفراد إسرائيل بامتلاك السلاح النووي في المنطقة، مع أنها “الدولة” العنصرية، والقائمة بدورها على ميثولوجيا دينية وسيادة دين واحد وأتباعه، ولكونها أكثر دول المنطقة عدوانية، إذ شنّت حروبًا توسعية وأعمالًا عسكرية خارج إقليمها الذي لم تعين حدوده بعد.
ومن المتوقع أن يلعب نتنياهو في خطابه الرابع على ذات حبال “الخطر الإيراني”، كي يحصل على تأييد إضافي من الكونغرس، يمنحه ورقة تهديد أكثر قوة وجدية، لتصفية الحساب عسكريا مع المتضامنين بالسلاح من الحلفاء العرب لإيران مع الشعب الفلسطيني، الساعين لوقف المجازر بغزة.
ولا يفوتنا التنويه إلى اتفاق خطابات نتنياهو السابقة أيضا في كيل المديح للدعم الأمريكي الاستثنائي للإبقاء على إسرائيل، وكي تظل الأقوى بالمنطقة، وباستمالات عاطفية تستولد عند جمهوره بالكونغرس الفخر والإعجاب بالذات، وتغذي التوهم بدور “رسالي”. وتمزج هذا باصطناع صورة اليهود و”إسرائيل دولة اليهود”/ الضحية المستهدفة مجددا بالاضطهاد والإبادة، مع الاستدعاء المكثف للمحرقة النازية.
وفي هذا ما يذكرنا بوصف لإسرائيل أطلقه وزير خارجيتها ليفي أشكول، عشية المبادرة بالأعمال العسكرية لعدوان 67 واحتلال المزيد من الأراضي إلى اليوم، وهو “شمشون المسكين”.