أحد المستويات الأساسية في التحليل في العلوم السياسية، تحليل المفاهيم، لأنه في الأخير، هذه العلوم في جوهرها تقوم على بنية أساسية وتأسيسية من المفاهيم، حتى البنية النظرية للعلم تقوم على شبكة من المفاهيم، لا يمكن فهم العلم وأصوله دون فهم هذه الشبكة وجذورها وتحولاتها وتطوراتها ودلالاتها.
وفي إطار تحليل المفاهيم السياسية، يتم التمييز بين مستويين، أولهما تحليل المفهوم في ذاته، وهذا يتم عبر ثلاثة مستويات فرعية، هي التعريف اللغوي، أي البحث عن أصله وجذره في اللغات المختلفة، عبر المعاجم والقواميس، ثم التعريف الاصطلاحي، أي البحث عن تعريفات المفهوم في الأدبيات الأصلية وأمهات الكتب والمصادر والمراجع ذات الصلة بالحقل المعرفي أو العلم الذي يتم البحث في إطاره، ثم التعريف الإجرائي القائم على المؤشرات العملية الإجرائية للتعاطي مع المفهوم من الناحية العملية والتشغيلية، كما يراه كل من يتصدى للتعريف.
المستوى الثاني، هو تنقية المفاهيم، ويكون ذلك من خلال التمييز والمقارنة بين المفاهيم المتشابهة والمتداخلة في معانيها ومضامينها، مثل السلطة والحكومة والدولة من ناحية، والعلاقات الدولية والشؤون الدولية والسياسة الدولية والسياسة الخارجية والنظام الدولي والمجتمع الدولي والقانون الدولي، من ناحية ثانية.
في جذور المقاومة لغة واصطلاحًا
وفي إطار هذين المستويين، تأتي هذه المحاولة للاقتراب من “مفهوم المقاومة”، لغة واصطلاحًا وإجراء، في العلوم السياسية، فمن الناحية اللغوية يُمكن القول أعظم الجذور اللغوية في اللغة العربية الجذر الثلاثي “ق و م” الذي يُشير إلى حزمة من المفاهيم تجتمع في أشكال عدة بالاشتقاق في أصل المبني، مع تنوع المعنى المتصل بالروح الواحدة لتشكل في مجموع اشتقاقاتها المباني والمعاني التي تُفسر المغزى الأكبر الجامع لحركة الجذر وحركاته، وتضفي عليه بهاء قرآنيًا وعطاء فياضًا لا مثيل له، كما يُشير إلى معاني الحركة القاصدة الهادفة المرتبطة بالقيام المشفوع بالنية للفعل، والعمل والقصد، الهمة والعزم، القدرة والفاعلية.
إن المقاومة هي “قيام” و”قوام” و”مقام” و”قيمومية” و”قيمة”، ومن الجذر اللغوي “قوم” كانت “الاستقامة”: {فاستقم كما أُمرت}، فالمقاومة مفاعلة وهي من جملة إقامة سنة المدافعة، وترتبط بالقيامة واليوم الآخر، فالمحرك الدائم للمقاوم هو النصر أو الاستشهاد، وهو الطريق القويم المستقيم، حيث {الدين القيم}، {دينا قيما}، {دين القيمة}، فالمقاوم قائمًا قيمًا؛ مُقيمًا حيث أقيم في أمته.
المقاومة فعل الأمة وفاعليتها وقدرات تمكينها، الفعل الحامي لكيانها، الضامن لفعاليتها، القادر على حفظ بقائها واستمرارها، حيث تتكافل فيها عناصر مقاومة الاستبداد في الداخل ومقاومة العدوان من الخارج، وبناء قدرات الممانعة والمنعة والمناعة الحضارية، فهي تعنى ضمن ما تعني أن هذه الأمة تستعصي على الموت كما تستعصي على الاحتواء، وأن عناصر ممانعتها هي حقيقة مناعتها وحصانتها، والصمود هو عين الانتصار.
المقاومة ليست فقط إدراكات وتصورات، أو مفاهيم ونظريات، ولكنها أيضًا أفعال وممارسات، فهي عملية معرفية وثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، حضارية في محتواها، وحضارية في مقاصدها تملك عناصر تمكينها، فهي المحرك لمفاهيم الحرية والتحرر والصمود والمثابرة، في مواجهة مفاهيم الهوان والعدوان والعبودية والاستسلام.
ومن هنا، وكما يقول أحد أساتذتنا: “أولى معاركنا المفاهيم والكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض، لأنها تُنتهك في حُرماتها، وتُدنس في معانيها وجوهرها، وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا يأتي فقط من معتدٍ خارجي يحاول أن ينحرف بالمعاني ويُدلس الدلالات، بل قد تأتي من داخل تهون فيه الكلمات والعبارات”.
المقاومة والجدل المزعوم بين الفتنة والاحتجاج
إن جوهر المقاومة هو الاحتجاج، والاحتجاج أحد العناصر المُشكلة لرقابة الأمة على السلطة والسلطان أيًا كانت هذه السلطة أو السلطان، ومواجهة الطغيان أو الاحتلال، سواء اتخذ ذلك شكلًا يتعلق بالإضراب، أو اتخذ شكلًا يتعلق بالتظاهر، أو أي شكل يُعبّر عن معاني الاحتجاج، القائم على التزكية والعمران الذي يجب أن تتربى عليه الأمة، ضمن عقلية كاشفة فارقة بين خطاب الفتنة، وخطاب الاحتجاج، كون الخطاب الأول مُفككًا، والخطاب الثاني مُوحدًا.
إن كل شيء يُعبّر عن مواجهة ظلم بعينه يُعد أصلًا شرعيًا موجهًا وهاديًا، ومنه يكون الاحتجاج من العناصر المهمة المشكلة لرقابة الأمة على السلطة والسلطان والطغيان، ومواجهة فعل الاحتلال والعدوان، ومقاومة الظلم والظالم واقتضاء المظالم.
وأحد مستوياته التأسيسية تحفيز الجماهير، وتأكيد وعيها واستحضاره وسعيها بالنسبة لمواجهة عناصر الاستبداد داخل الأمة، ومواجهة العدوان على الأمة الذي يخرب العمران، فخطاب الاحتجاج يحفز معنى جامعية الأمة وعمرانها، وهو خطاب يتعارض بالمطلق مع “خطاب الفتنة” الذي يقوم على التفكيك والتفتيت والتشرذم والتجزؤ في إطار مصالح آنية وأنانية.
إن المقاومة والاحتجاج، جوهرهما افعل ولا تفعل “تأثيرًا” و”وعيًا” و”سعيًا”، لذلك لا بد أن تتضمن استراتيجية المقاومة العناصر والشروط التي تحقق هذا التأثير وتضمن تلك الفاعلية، وتوفير ما يتطلبه ذلك من آليات ووسائل وممارسات وإجراءات وإمكانيات وقدرات، في إطار تسكين الخطط الجزئية في الرؤية الاستراتيجية.
إن الاحتجاج بكل أشكاله ومستوياته، يمثل واحدًا من أهم الإجراءات التي تُعبّر فيها الشعوب عن مقاومتها، لكل ما ينال من حريتها وكرامتها، وأمنها وأمانها، وترسيخ قيم الحق والعدل والمساواة، ومقاومة الظلم والطغيان والعدوان، حتى لو كانت هذه الإجراءات على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، والاستفادة من قدراتها الاتصالية في بناء الوعي وضبط البوصلة ورسم خرائط الحركة الراشدة الفاعلة.
المقاومة ومستوياتها في الممارسة العملية
إن المقاومة كلمة جامعة لكل معاني الدفاع عن الكليات الخمسة التي توجب الحفاظ عليها ومقاومة أي اعتداء عليها بأي صورة من الصور وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال)، وهي بهذا المعنى تشمل كل الأشكال والآليات المدنية والعسكرية، الثقافية والحضارية، المرنة والصلبة، التي تتخذها الشعوب ضد الفساد والاستبداد والعدوان والطغيان أيًا كان مصدره.
وقد رسَّخت الشريعة الإسلامية حق الإنسان في دفاعه عن نفسه وماله وعرضه ومقاومة ودفع كل من يعتدي عليه، وحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم مواضع المقاومة التي إذا مات فيها المسلم نال الشهادة وارتقى درجات الشهداء قال: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد) رواه أبو داوود والترمذي.
لذلك حُرّم العدوان بأشكاله كافة وصوره المادية أو المعنوية التي تنتقص من حرية الإنسان وكرامته، وشُرعت المقاومة، وأُذن للمظلومين والمقهورين دفع العدوان بالصور والأشكال والوسائل كافة التي تحقق لهم حريتهم وتحفظ لهم أوطانهم وأنفسهم ودينهم الذي ارتضاه الله لهم.
إن المقاومة هي كل فعل تقوم به “تأثيرًا” و”وعيًا” و”سعيًا”، دفاعًا عن حريتك وكرامتك، دفاعًا عن مالك ودمك، دفاعًا عن دينك وأهلك، في مواجهة كل ظلم أو عدوان أو طغيان، داخليًا كان أو خارجيًا، فالمقاومة هي أصل العمران، وهي جوهر استمرار البشرية والقيام بدورها المنشود في عمارة الأرض وعبادة الخالق، فلا يستقيم العمران مع أي فساد أو طغيان، ولن يتحقق العمران مع خنوع وخضوع أو ذل وهوان.