200 يومٍ مرَّت على حرب الإبادة الجماعية في غزة، مضت ثقيلة بتوانيها ودقائقها بأيامها وشهورها، كانت خارج حسابات الزمان وكأننا في غزة نعيش في عالمٍ آخر، فلا يمكن قياس تلك المدة التي مرتْ، اليوم فيها قطعة من العذاب، أيامها متشابهة، جدران البيوت تتخلخل والأرض من تحتك تهتز وكأنك تعيش في ارتدادات زلزال متواصل لا يتوقف، الدخان الناجم عن القصف لا يفارق السماء كما لا تفارقه كل أنواع الطائرات الإسرائيلية، الحربية والمروحية والاستطلاع والانتحارية والدرون والمسيّرات وأقمار اصطناعية.
ترى صراخ أطفال، بكاء نساء، بيوت تتهاوى، أحياء تمسح، جنازات تشيَّع على عجل، جثث شهداء في كل مكان، الساحات تحولت لمقابر جماعية، الجوع ينهش بطون الأحياء والكلاب والقطط تنهش جثث الشهداء الملقاة في الشوارع، كل ذلك يحدث في نفس البقعة التي نعيش فيها تحت ذات السماء داخل السجن الكبير نفسه.
سيدة تحتضن كفن طفلها، وأخرى تبكي على جثمان شقيقها، طفل يركض وراء جنازة يبحث عن والده، وآب جمع أشلاء أولاده في كيس صغير، وأخ ذهب مع شقيقه لإحضار كيس الطحين فعادوا في كفن بدلاً من الطحين، كلها مشاهد متكررة في الحرب، اختلف فيها الأسماء وتشابهت القصص وألم الفقد والحزن.
نعيشُ جرحا لم يندمل، وحياة متجمدة تعطلت فيها عجلة الحياة عن الدوران، وقتلت أحلامنا وأمنياتنا، حفرت الهموم مخالبها في ملامحنا فتغيرت وكأننا كبرنا عشر سنوات فوق أعمارنا، حملنا على كاهلنا في ستة أشهر ما لم نحمله طيلة حياتنا، أوجعتنا تلك المشاهد التي رأيناها وعشنا تفاصيلها، ونجونا من الموت الذي لم تنجُ منه قلوبنا.
كل شيء في غزة تغيّر، فقدت الشوارع ملامحها ورحل أهلها إما نازحين تركوها وهربوا من الموت والدمار والإبادة، أو رحلوا شهداء أثناء محاولتهم الخروج من تلك المناطق فاقتنصتهما نيران الدبابات والطائرات. أصبحنا نسير في طرقات غير التي كنا نسير فيها قبل الحرب، نبكي على أطلال الذكريات، على جمال غزة المشوه من نيران الصواريخ.
وأصبحنا ندقق في ملامح أصدقائنا، ثم نسألهم عن اسمائهم التي بقيت الشاهد الوحيد عليهم، بعد تغير كل شيء فيهم، نعيش في بقعة مظلمة لا ترى فيها النور إلا الضوء المتوهج من القمر، نبحر في سفينة وبحر يريدون أن نغرق فيه.
دفنا أحلامنا في مقابر جماعية اتسعت لطمرها، بعد أن قتلت الحرب كل شيء، اقتلعت أحلامنا من جذورها، وتوقفت مشاريعنا، خسرنا الوظائف، الأعمال، تدمرت المحال التجارية، المدارس والجامعات، ولم نعد نسعى لتطوير أنفسنا بقدر انتظار انتهاء حرب الإبادة، لأن آلة الدمار تواصل حصد كل شيء.
إرث تاريخي وأثري وصروح تعليمية وأماكن ومعالم حضارية شكلت الوجه الجميل لغزة، وجعلتها جنّة بكل معنى الكلمة، رضيت هذه البقعة وأهلها في أنصاف أحلام بحياة مجدولة الكهرباء توصل ثماني ساعات، والمياه تقطع، نعيش في حصار منذ سبعة عشر عاما، صبرنا على الفقر والبطالة التي طالت 47%، انعدمت معها الوظائف ووصل الفقر لمستويات كارثية.
رضينا مجبرين على ذلك، لكننا لم نترك فلسطين وكنا أول من يلبي نداء استغاثتها من دمائنا في كل الحروب والتصعيدات السابقة مع المحتل، وها هي غزة تدفع ثمن كبريائها وصمودها بأن يجتمع العالم عليها، تمد أمريكا المحتل بكل آلات الدمار والذخائر.
فقدنا أحبابًا عاشوا معنا وعشنا في قلوبهم، لم تعد العائلات مكتملة كما كانت، الآلاف منها تناقصت ورحلت بشكل جماعي، وغادرت السجل المدني، لم تعد تجدها إلى داخل قبر جماعي يضم أشلاءهم أو في إطار صورة توقفت عندها عجلة الزمن.
سمعنا عن الحرب العالمية الأولى والثانية عن جرائم الإبادة التي ارتكبها النازيون، والأمريكان، عن جرائم الانتداب البريطاني وجرائم العصابات الصهيونية إبان النكبة الفلسطينية عام 1948 عن مجازر دير ياسين و"قانا" عن حرب لبنان عام 1982، لكننا شاهدنا أبشع مما سمعنا، ربما لم يجرؤ هؤلاء على إبادة الأطفال وتحويلهم إلى أشلاء كما تجرأ الصهاينة اليوم على فعل ذلك بأطفال غزة.
ستظل مشاهد المقابر الجماعية لمئات المدنيين في غزة، بعد أن يتم إعدامهم وهم مقيدون، أو طمرهم وهم أحياء كما حدث في شمال القطاع، وفي مستشفى الشفاء بمدينة غزة ومستشفى ناصر بخان يونس، لعنة في جبين الإنسانية، ومنظمات حقوق والأمم المتحدة الذين يمارسون جريمة الصمت.
المضحك في الموقف الأمريكي تجاه الحرب أنها أمدت الاحتلال بمئات الأطنان من المتفجرات، ثم أرسلت طائرات مساعدات الإنزال الجوي لتلقي بعض الوجبات الغذائية على شاطئ البحر، تحاول التغطية على جريمتها في المساهمة في الإبادة الجماعية، فبينما تنزل تلك المساعدات لذر الرماد في العيون، بجوارها تنزل الطائرات صواريخها على رؤوسنا بتوقيع أمريكي.
أما دول العالم التي لم تتحرك لأجل وقف الإبادة، عار لها أن تتحدث في يوم من الأيام عن حقوق الإنسان وهي التي صمت على قتله، وعار لها أن تتحدث عن حقوق الطفل وهي التي شاهدت أشلاء الأطفال دون أن تحرك ساكنًا، يجب عليهم أن يخجلوا من أنفسهم عندما يتحدثون عن حقوق المرأة وهم أول من صمت على قتل النساء في غزة وتعذيبهن.
في غزة، تدور الحياة الآن، بين خيام ومقابر وجنازات، هذه هي ثلاثية المشهد، ففي الخيام نعيش أنصاف حياة، أو في موت مؤقت فالحياة لن تدب في أرواحنا إلا عندما تتوقف الحرب، في الخيام لا أمان تنام بنصف عين خلف تلك القطعة المصنوعة من النايلون والقماش، لا يوجد باب تغلقه ليحفظ أمتعتك، الرمال هي ضيفك الدائم، تسير مسافات طويلة لتعبئة مياه الغسل والشرب، الطعام تطهوه على الحطب، الخصوصية منعدمة فجارك يسمع همساتك.