تتراكم الضغوط التي ولّدتها عاصفة المقاومة "طوفان الأقصى" التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لتخلق موجات ارتدادية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها، في نطاق عملية تفاعلية أوسع لإعادة التوازنات الداعمة للاستقرار، ليس فقط في المنطقة العربية بل في العالم، حيث يتصارع توجهان أحدهما يرغب في الإبقاء على النظام العالمي الأحادي القطب تحت هيمنة إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية، وآخر يعمل على تعديل النظام القائم -وما يرتبط بقواعده-، منذ العقد الأخير من القرن العشرين، والذي مكَّن ما يوصف بالتحالف الغربي من فرض خياراته على بقية المعمورة تحت غطاء شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ومتفرعاتها التي لا يتم تطبيقها سوى بأساليب انتقائية وعنصرية وتمييزية.
هناك شبه إجماع في مختلف الأوساط السياسية والعسكرية على أنه بعد 6 أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة لم يحقق الاحتلال الإسرائيلي الأهداف الأساسية المعلنة من الحرب والمتمثلة في القضاء على المقاومة وتدمير حركة التحرير "حماس" عسكرياً وسياسياً، وإفراغ القطاع من سكانه.
يوم الإثنين الأول من أبريل/نيسان قصفت طائرات حربية إسرائيلية من طراز إف-35 مبنى القنصلية الإيرانية الملاصق للسفارة الإيرانية في دمشق، في تصعيد للحرب التي يشنها الاحتلال على خصومه وحلفاء إيران في المنطقة. القصف أودى بحياة 7 مستشارين عسكريين من بينهم 3 من كبار القادة الضباط في الحرس الثوري، واعتبر تحدياً مباشراً لطهران، خاصة أنه حسب ميثاق فيينا يعتبر هجوماً مباشراً على أرض إيرانية.
عدد كبير من المحللين، وخاصة في الغرب، قدّروا أن الهجوم الإسرائيلي كان مدفوعاً بهدفين، الأول تهديد وتحذير طهران من الاستمرار في دعم المقاومة الفلسطينية في غزة والهجمات التي يشنها بشكل مستمر منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حزب الله على شمال فلسطين المحتلة، ما أسفر عن ترحيل كل المستوطنين منها، وثانياً السعي لجر إيران إلى مواجهة عسكرية مباشرة وتوريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية جديدة، وتدمير برنامج قوة طهران ومشروعها النووي، والتغطية على تعثر العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وإنقاذ رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو.
عقب هذا الهجوم من الاحتلال، توعدت إيران بالرد، خلال الأيام التي تلت الأول من أبريل/نيسان رجحت أجهزة الرصد الغربية ومنها المخابرات المركزية الأمريكية والموساد الإسرائيلي وشبيهاتها في باريس وبرلين ولندن أن يكون الانتقام الإيراني بواسطة أطراف حليفة لطهران، وقد يكون ضد بعثات دبلوماسية إسرائيلية. بناءً على ذلك أغلق الاحتلال العديد من سفاراته في دول تعتبر أمنها غير كافٍ.
بعد مرور الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان، كثر الحديث في واشنطن، وبناءً على معلومات للمخابرات عن أن الرد الإيراني سيكون مباشراً. في أعقاب ترسخ هذا التقدير بعثت واشنطن وعبر قنوات الاتصال غير المباشرة مع طهران وفي مقدمتها سلطنة عمان بتحذيرات من القيام بعمل عسكري ضد الاحتلال. لكن كل ذلك لم يثنِ إيران عن إعداد ضربة تستهدف إسرائيل بشكل مباشر.
في المقابل، وخلال 5 أيام تبلورت عملية استعداد غربية لمواجهة الهجمة الإيرانية المرجحة، الخطة كانت تقوم على قيام القوات الأمريكية والبريطانية المرابطة في مناطق مختلفة بالشرق الأوسط وقواعد أمريكية في المنطقة بالعمل على اعتراض الصواريخ والمسيرات التي ستطلق من الأراضي الإيرانية نحو إسرائيل، والمفترض أنها ستكون أقل من شديدة الخطورة 'Less lethal'.
وقع الرد الإيراني يوم السبت 13 أبريل/نيسان، ووقف الكثيرون في مناطق كثيرة من العالم مشدودين، خاصة من الخوف من إفلات الأمور من التحكم وبدء حرب إقليمية. في الساعات التي استغرقها الهجوم الإيراني وبعدها ظهرت معطيات متضاربة حول الحجم المادي للهجوم ودرجة نجاح الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم في اعتراضه، وما وصل منه فعلاً إلى داخل إسرائيل.
إذ أكد المتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي، دانيال هاغاري، أن إيران أطلقت نحو 350 صاروخاً وطائرة مسيرة من إيران على إسرائيل، وأكد هاغاري أن إيران أرادت ضرب بنى تحتية استراتيجية، ولذلك نفذت عملية واسعة واستهدفت قاعدة "نيفاتيم" الجوية، ولكن هجومها كان فاشلاً.
أدت الضربة الأخيرة إلى خسائر اقتصادية واستراتيجية كبيرة لقوات الاحتلال. فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، استناداً إلى تصريحات قائد عسكري سابق، أن إسرائيل أنفقت ما يصل إلى 5 مليارات شيكل (حوالي 1.35 مليار دولار) خلال ليلة واحدة فقط للتصدي لهجوم شنته إيران باستخدام مئات المسيرات والصواريخ. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الضربة أن إسرائيل لا تستطيع الدفاع عن نفسها بمفردها، وأن الفترة التي كانت فيها تفرض هيمنتها العسكرية على الدول المجاورة دون رد قد انتهت. لقد أثبتت هذه الضربة أن أي هجوم سيقابل برد قوي ومباشر.
ولكن ما يتجاوز قوة الضربة أو الخسائر الاقتصادية للاحتلال، هو التأثير العميق والبعيد المدى الذي تشير إليه هذه الحادثة؛ فهي تدل على تحرر الخيال السياسي وإمكانية تغيير قواعد اللعب وموازين القوى في المنطقة والعالم. فها هي المقاومة تبرز كقوة مباشرة تخشى المواجهة، ونداً قوياً في الميدان. هذه المقاومة، من خلال ردها القوي والمباشر، تمكنت من إعادة تشكيل مفاهيم الصراع والتأثير على مستوى التفكير الاستراتيجي في المنطقة. وها هي إيران، من خلال هذا الهجوم المباشر، ودون تدخل من الولايات المتحدة التي تخشى توسع النزاع، قد أظهرت أن عصر الهيمنة والبلطجة الإسرائيلية على الخيال السياسي قد ولى. فنحن الآن في مرحلة جديدة من الشحن السياسي، وهو ما سينعكس حتماً على السياسات والأفعال في المستقبل. اليوم، يدرك الوعي السياسي والجمعي أن إسرائيل يمكن أن تُضرب وتُوضع في مأزق، سواء هي أم راعيتها، وهذا ستكون له انعكاسات على النظام العالمي بأكمله، حيث نرى كيف تقف روسيا والصين بالمثل أمام الإمبراطورية الأمريكية التي تطوق العالم بقواعدها العسكرية دون أن تباد.
أما عن السؤال الآني، الذي يجب أن يطرح الآن هو: ماذا سيكون رد تل أبيب التي تريد توريط واشنطن في حرب في الشرق الأوسط، والإدارة الأمريكية غير متحمسة لذلك، خاصة على ضوء انغماسها في الحرب الأوكرانية الروسية والتحديات التي تواجهها في بحر الصين الجنوبي وجزيرة تايوان ومخاطر سنة انتخابات رئاسية يخشى الرئيس بايدن أن يخسرها بعد 5 أشهر من الآن؟!