فلسطين أون لاين

المشهد التفاوضي: المقاومة والاحتلال والإقليم والولايات المتحدة

بوساطة مصرية قطرية، ومشاركة أمريكية مباشرة، وصلت المفاوضات بين المقاومة والاحتلال إلى ذروة التفاعل، وسط حراك لم يتوقف على مدار أسابيع من الوسطاء وفي الخلفية منهم غالبية القوى الإقليمية في المنطقة، بهدف الوصول إلى اتفاق لوقف القتال في قطاع غزة يتضمن عملية تبادل للأسرى بين المقاومة والاحتلال.

دخلت المفاوضات في مرحلة مفترق طرق يضع المشهد بأكمله أمام خيارين: الوصول إلى صيغة اتفاق حاليًّا؛ أو المجازفة بالدخول إلى نفق قد يطيل أمد الحرب إلى مدة غير معلومة، وبوتيرة مختلفة تمامًا، ليس في قطاع غزة فحسب، بل في الأراضي الفلسطينية عمومًا والإقليم، مفترق طرق مقرون بهامش زمني ضيق ومحدود جدًّا، وهي المدة الفاصلة ما بين توقيت كتابة هذه الكلمات، حتى دخول شهر رمضان، مع هامش محدود في إطار الأسبوع الأول من الشهر المنتظر.

المشهد التفاوضي للمقاومة

تتمسك المقاومة الفلسطينية بمجموعة من المُحدِّدات التفاوضية التي تعدُّ أن التنازل فيها يُشكِّل مساسًا مباشرًا بالاحتمالات الفعلية لإيقاف العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع، ومنح الاحتلال فرصةً لتحقيق أهدافه العدوانية من الحرب، التي لم يَنجح في الظفر بها على مدار أشهر خمسة من القتال الوحشي، لم يَسُدْ فيها إلا مشهد الدمار الواسع ودماء وأشلاء الأطفال والأبرياء في قطاع غزة، مضافًا إلى حرب تجويع و"صوملة" لشمال القطاع للانتقام من الصامدين فيه بمواجهة مصير المجاعة والموت البطيء.

المحدداتُ التي تتمسك بها المقاومة، بوصفها أساسًا لتدشين المرحلة الأولى من الاتفاق المنظور، مكوَّنةٌ من مثلث أضلاعه: بدء مسارٍ لوقفٍ كاملٍ لإطلاق النار؛ وانسحاب الآليات وجيش الاحتلال إلى خارج المناطق المأهولة أي إلى الحدود الشرقية والشمال من القطاع، وعودة النازحين من جنوبيِّ القطاع إلى شماليِّه وحرية الحركة بين مناطق القطاع، مضافًا إليها شروط تفصيلية مرتبطة بالعديد من التفاصيل الإنسانية والاسعافية، والتأهيل الأوَّلي للبنية التحتية، ومُلحقًا بها معادلات تبادل الأسرى.

كانت المحدِّداتُ السابقُ ذكرها خلاصةَ المرونةِ التي يمكن أن تقدِّمها المقاومةُ إلى المشهد التفاوضي، الذي قدَّمت في خلاله مجموعةَ تنازلات جوهرية للوصول إلى المطلب الرئيس المتمثل بالوقف الكامل لإطلاق النار وإيقاف العدوان وحرب الإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.

شكَّلَ الضغطُ على الحاضنة الشعبية وتوجيهُ الاحتلالِ نيرانَه الضخمةَ للانتقامِ من أهالي قطاع غزة ودفعِهم إلى الهجرة بشقَّيها القسري والطوعي، وتدميرُ كل مقومات الحياة، والضغطُ لإغراق قطاع غزة بالفوضى، العاملَ الأكبرَ في خلق مستويات متعددة من الضغط على المقاومة التي ترى في سلامة عمقها الجماهيري وحاضنتها الشعبية مقومًا رئيسيًّا من مقومات انتصار الصمود على آلة الحرب الإجرامية.

المشهد التفاوضي للاحتلال

على المقلب الآخر، الموقف لدى الاحتلال مُعقَّد ومُركَّب، فالحرب التي شنَّتها "إسرائيل" على قطاعِ غزة ومقاومتِه تحولت تدريجيًّا إلى حرب "نتنياهو" السياسية، التي يبحث عن إطالة أمدها طالما استطاع ذلك، إلى أن تنقلب فرصَه الانتخابية والسياسية، أو يخطف نصرًا استراتيجيًّا فاقعًا يمحو الفشلَ الذريعَ في السابع من أكتوبر، ويعيده من كونِه رئيسَ الوزراء الذي تلقَّت "إسرائيلُ" الصفعةَ الأقوى في تاريخها في عهدِه إلى كونِه "رجلَ الأمنِ" القويِّ المتين، وملكَ زعماءِ "إسرائيل" الأكثرَ جلوسًا على مقعد رئاسة الوزراء، ومن سيتجاوز بالدولة العبرية عتبة "العِقد الثامن".

بعد خمسة شهور من القتال، لم يستطِع "نتنياهو" ولا جيشه ولا كل أصناف الإبادة والقتل والتدمير والتجويع في انتزاع صور نصر جوهرية، فيما يدُور جيشُه في حلقات مفرغة في أراضي قطاع غزة، ولم تتوقف ضرباتُ المقاومةِ ولم يَنجح في تحرير أسراه ولا في الوصول إلى قيادة الصف الأول في المقاومة، وبحسابات المنطق والربح والخسارة يمكن توصيف عمليات جيش الاحتلال على الأرض بالعلميات العمياء، التي تهدف إلى البحث عن إبرة في أكوام من القش المنثور على حقل من الألغام.

على مدار أشهر الحرب، قَتلَ الاحتلالُ من أسراه عددًا يراوح نصف من تبقَّى من الأسرى لدى المقاومة، إذ ذاق أسرى العدو ما ذاقه أبناء الشعب الفلسطيني من صنوف القتل والدمار، فقتل أسرى بالقصف، وأسرى بالرصاص، وأسرى آخرين بالغاز السام، أو الدفن تحت الأنقاض، ترافَقَ ذلك مع فشل ذريع في تنفيذ عمليات تحرير بالقوة دفَعَت جيشَ الاحتلالِ وجهازَ الأمنِ العامِّ "الشاباك" إلى إخراج تمثيليات لتعويضِ هذا النقص، ودعمِ الموقف التفاوضي للوفد "الإسرائيلي" المفاوض على صفقة الأسرى، وتخفيف حدة الغضب من أهالي الأسرى.

مترافقًا مع تعاظُم الفشل والقناعة المتوسعة في انعدام جدوى الخيار العسكري في تحرير الأسرى، يتصاعد تدريجيًّا ويتوسع حراك أهالي الأسرى الذي لم يَعُد محصورًا في شوارع "تل أبيب"، بل توسَّع إلى مدن أخرى، والتحقت به شرائح كبيرة متضامنة مع الأهالي الذين باتوا على قناعة بأن رئيس وزرائهم قد حَكمَ على أبنائهم بالقتل، وبأن ملف عودة أسراهم سالمِين لا يُشكِّل أولويةً أولى على سلَّم "نتنياهو" المراوغ.

يبحث "نتنياهو" عن مسار جزئي لتبادل الأسرى، يخفِّف فيه الضغطَ الداخليَّ وحراكَ أهالي الأسرى، وفي الوقت ذاته يُنفِّس فيه من الضغط الدولي، ويساعده في هدوء مؤقت يمرِّر عبره شهرَ رمضان، لاعتباراته الأمنية الداخلية، والاعتبارات الإقليمية والدولية، لكنه يريد هذا المسارَ بأقل قدر ممكن من الأثمان، مع التأكد الكامل من أن هذا المسارَ مسارٌ مؤقَّتٌ لتُستأنَف الحربُ بعد تمرير عوامل تخفيف الضغط المذكورة سابقًا، ما سيمنحه مدةً أكبر لترميم فرصِه ومستقبلِه، ومساحةً للبحث عن صور نصرِه، مع تجريد المقاومة تدريجيًّا من أوراقها.

المشهد الإقليمي

يضغط كلٌّ من فريقَي الإقليم الرئيسيين كلٌّ بطريقته ولأهدافه، من أجل الوصول إلى وقف إطلاق نار في قطاع غزة، وتبحث كل الأطراف عن هذا الوقف قبيل شهر رمضان، الذي يَحمل حساسية كبيرة لدى المسلمين، وستُشكِّل مشاهد القتل والدمار في خلاله بلوغَ الذروة من الاستفزاز والضغط على الشعوب العربية والإسلامية، التي عملت أنظمتها على مدار خمسة أشهر لاحتواء ردود أفعالها وتفريغها من أي مضمون.

في محور المقاومة، لا يُشكِّل الدورُ الإسناديُّ الذي تقدمه مكوناتُ المحورِ نُزهةً، ويترافق مع فاتورة من التضحيات والخسائر في ممكناتٍ استراتيجيةٍ باتت عرضةً للاستنزاف في خلال شهورٍ من القتال الإسنادي، والصمود في وجه ضغوط متعددة المستويات تنوعت ما بين الشق الدبلوماسي والشق العدواني العسكري، وحملت عروضَ الترغيب وعروضَ الترهيب، وتحريك كل الأوراق لإيقاف هذا الدور، بما فيها الضغط من الداخل عبر حلفاء الولايات المتحدة.

تعِي قوى محورِ المقاومةِ أن استحقاقات التصعيد ستتوسع، خصوصًا مع التزامها بعدم السماح بهزيمة المقاومة في قطاع غزة، وبالتالي فإن الحديث عن توسع العدوان، ودخول مرحلة رمضان ورفح إلى المشهد، سيعني بالطبع نقل القتال إلى مستويات جديدة قد تَحمل في طياتها الانفجار الأكبر الذي تجنَّبه الجميعُ على مدار أشهر الحرب، خصوصًا مع دخول المسجد الأقصى إلى المعادلة والعدوان من الحكومة الفاشية في دولة الاحتلال، وبالتالي سيُشكِّل الوصولُ إلى الهدوء وإيقاف الحرب نافذةً مهمةً لإعفاء الجميع من فواتير تصعيد كبير يلوح في الأفق، ولا يستطيع أحد التنبؤ بارتداداته.

في الإقليم ذاته، تعي دول محور "الاعتدال" أو حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، الواقعة على حدود فلسطين أو البعيدة عنها، أنَّ قدرتها على ضبط حركة جماهيريتها التي استمرت على مدار أشهر الحرب، لن تعود بالفعالية ذاتها مع دخول شهر العبادة والصوم لدى المسلمين، الذي تُشكِّل التجمعاتُ جزءًا أساسيًّا من طقوسه، وسط حساسية كبيرة في المشاعر لعموم المسلمين فيه، وبالتالي سيُشكِّل استمرار صور القتل والدمار والتجويع في قطاع غزة، مترافقًا مع المجازر المتوقعة في حال إقدام الاحتلال على اجتياح رفح التي يتكدس بها أكثر من مليون ونصف نازح، عبثًا كبيرًا في صمامات الانفجار للجماهير العربية، إضافةً إلى جرح كبير في الشرعيات المتهالكة لهذه الأنظمة التي لجأت للإنزال الجوي مترافقًا مع بروبجندا كبيرة لتقديم مادة لجمهورها تحاول عبرها تخفيفَ النقمةِ وردِّ الفعل.

المشهد الأمريكي

لم يكن اللاعب الأمريكي، منذ اليوم الأول للحرب، داعمًا للاحتلال، بل شريكًا مباشرًا جلس رئيسُه ووزيرا خارجيتِه ودفاعِه في مجلس الحرب الصهيوني، وشارك في صياغة الخطط والاستراتيجيات والدعم العملياتي والاستخباراتي واللوجستي لجيش الاحتلال في حربه على قطاع غزة.

باتت معادلاتُ هذا الشريك الداخليةُ والخارجيةُ تضيق عليه يومًا بعد يوم بفعل استمرار حرب الإبادة على القطاع، وخلقت الحربُ معادلاتٍ جديدةً تجاوزت في تأثيراتها حجمَ غزة الجغرافي والاستراتيجي، حتى بات تأثير غزة وحربها أعظم وأكبر من ملفات كبرى في حقيبة الولايات المتحدة، وصلت إلى حدود خلق ردة عند جزء ليس بيسير من أنصار الحزب الديمقراطي الأمريكي على أبواب الانتخابات والاستحقاق الرئاسي.

بات الرئيسُ "بايدن"، الباحثُ عن ولاية جديدة، يجد في تورطِه في الحرب على غزة مادةً تلاحقُه وتهدِّد فرصَه الرئاسيةَ القادمة، وسط غضب كبير لدى الناخبين العرب والمسلمين، وشريحة الشباب، فيما شكَّلت حادثةُ حرق الضابط الأمريكي نفسَه تضامنًا مع غزة، وجولة "ميشيغان" الانتخابية، والخلافات في الفريق الرئاسي لـ"بايدن" والتوسع الكبير في الحراك الشعبي الأمريكي الداعي إلى وقف الحرب، ذروةَ الضغط الداخلي على الرئيس الأمريكي، والتضارب في الهوية الأخلاقية والمعايير المزدوجة في دعم دولة في حرب إبادة على الشعب الفلسطيني.

من جانب آخر، يُشكِّل التهديدُ المتصاعدُ لمصالح حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عاملًا مهمًّا في الضغط على الإدارة الأمريكية، التي باتت تخشى الغرقَ في الشرق الأوسط تدريجيًّا، وسط مخاوف من توسُّع الحرب والانتقال إلى مواجهة إقليمية واسعة بحث الديمقراطيون عن إبعاد شبحها كثيرًا عن الشرق الأوسط، الذي تبنَّى الرئيس "بايدن" استراتيجية سياسة تقليص الوجود فيه.

كخلاصة، باتت كل الأطراف على اقتناع تام بأن استمرار حرب الإبادة على غزة سيتحول إلى صاعق يفجِّر العديدَ من المَشاهد السالف ذكرها وغيرها، في الوقت الذي يتشكل فيه اقتناع كبير بأن "نتنياهو" بات يرهن كل هذه التركيبات لمعادلاته السياسية والسعي إلى إطالة أمد الحرب لضمان إطالة أمد وجود على سدة الحُكم في "إسرائيل"، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة إلى توسيع أوراق ضغطها وصولًا إلى مرحلة استدعاء "غانتس"، زميل مجلس الحرب وخصم السياسية والانتخابات لـ"نتنياهو"، إلى واشنطن، دون إشعار الأخير بذلك، في رسالة بأن كل أوراق الضغط باتت على الطاولة.

يقف المشهد بأكمله أمام مرحلة حساسة تشبه السير على حافة السيف، فإما أن يكون نتاجه الوصول إلى اتفاق، أو الدخول في نفق لا يمكن لأحد التنبؤ بمساراته، ناهيك عن احتمالات كونه نفقًا ملغومًا سيفجِّر معه المنطقة كلها.