في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، دشّنت المقاومة اللبنانية مساهمتها بالنيران في إسناد فلسطين المحتلة ومقاومتها في وجه الحرب العدوانية، التي انطلقت بتفويض عالمي واسع للاحتلال الإسرائيلي وبمشاركة أميركية مباشرة في العدوان. شكّلت المبادرة اللبنانية أُولى ملامح الجبهات الإسنادية للمقاومة الفلسطينية، والتي توسّعت لتشمل سوريا واليمن والعراق والبحرين، وصولاً إلى القصف المباشر من إيران لعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أعلن السيد حسن نصر الله بشكل واضح وصريح الالتزام بإسناد الشعب فلسطين ومقاومته، بل وجزم بأنّ المقاومة اللبنانية ومحور المقاومة لن يسمحوا بهزيمة غزة ومقاومتها، وذلك التزاماً بالواجب الديني والأخلاقي والوطني، وأيضاً في إطار حماية مكتسبات محور المقاومة، والمراكمة على ما أُنجِزَ عبر سنوات حملت التضحيات الجسام لبناء كتلة صلبة للمقاومة تستطيع أن تحاصِر الاحتلال، وتدشِّن مشروع اشتباك فعّالاً يسجِّل النقاط لصالح معركة التحرير الكبرى لفلسطين، وتفكيك هذا الكيان العدواني من المنطقة.
في الواقع، شكّلت الجبهات الإسنادية، التي قوبلت في بداية الحرب بخطاب التشكيك من جانب، والضغوطات الداخلية والخارجية من جانب، وسياسات العصا والجزرة مع كل جبهة على حدة من جوانب أخرى، مكوّناً مهمّاً من مكوّنات المرحلة، بل ورسمت محدِّدات واضحة لشكل المنطقة المقبل وموازين القوى فيها، وثبتّت أرضية صلبة لقواعد الاشتباك المقبلة في الإقليم، ووضعت "إسرائيل" في موقعها الطبيعي بوصفها احتلالاً غاصباً لا يمكن أن يُشكِّل مكوّناً طبيعيّاً في المنطقة، ولا أن يتحوّل إلى رأس حربة لحلف "دفاعي" في مواجهة محور المقاومة والدفاع عن المصالح الأميركية ومشروع الهيمنة في الشرق الأوسط.
بحث الاحتلال عن ردعه المفقود
كشفت التقارير العبرية أنّ أوّل مشاريع القرارات التي طُرحت على طاولة حكومة الاحتلال كان البدء في حرب استباقية تستهدِف "حزب الله" في لبنان، حملت هذه التقارير مؤشّرَين رئيسَين: أما الأول فكان البحث عن الردع عبر التلويح بخيار الهجوم الكبير، لثني المقاومة اللبنانية عن تقديم مساهمتها وضغط جبهتها الداخلية وتحفيز خصومها لمهاجمتها ومحاولة دفعها عن مسارها، وأما الثاني فكان انعكاس حجم التخوّف الاستراتيجي الذي شعرت به "إسرائيل" في إثر عملية "طوفان الأقصى"، والخشية من أن يشجِّع هجومٌ بهذا الحجم على انفتاح كلّ الجبهات مرّة واحدة.
في أول خطاباته لإعلان الحرب على قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، أوضح رئيس وزراء الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، أن هذه الحرب هي حرب على القطاع، لكنها أيضاً حرب موجَّهة ضدّ كلّ خصوم "إسرائيل" الذين يبحثون عن فرصة لإيقاع الضرر بها، بحسب وصفه، في إشارة واضحة وصريحة إلى محور المقاومة وقواه الناشطة في المنطقة، ما يوضح أن القوة الإسرائيلية الغاشمة في غزة لم تكن فقط لهزيمة مقاومة القطاع التي لا تزال صامدة وتقاتِل بكلّ استبسال، بل أيضاً لترميم ردع "دولة" الاحتلال الذي تلقَّى أُولى ضربات التهشيم في تموز/يوليو 2006 على شمالي فلسطين المحتلة، وأُجهِز عليه في تشرين الأول/أكتوبر 2023 جنوبي فلسطين المحتلة.
مثلما حاول الاحتلال تدشين عقيدة "الضاحية" كعقدة في وعي المقاومة في المنطقة، ثم تكرار هذه المشاهد لكيِّ الوعي في عدوان 2008 و2012 و2014 و2021 ضد قطاع غزة، يحاول الاحتلال الآن أن يُثبِّت مظهر الدمار والقتل الكبيرَين في قطاع غزة كـ"عقيدة غزة" لكيِّ وعي قوة المقاومة وشعوب المنطقة حول المصير الذي ينتظر مَن يضرب "إسرائيل"، في إعادة إنتاج أكبر وأضخم وأكثر إجراماً لقوالب الفشل، التي أثبتت تراكمات تموز/يوليو 2006 نتيجتها العكسية على الاحتلال بما حقَّقته المقاومةُ في سيف القدس2021، وما ترسِّخه معركة "طوفان الأقصى" وارتدادات السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
تثبيت التحوّل الاستراتيجي لصالح المقاومة
قرأت المقاومة منذ البداية وتيرة الحرب وحجمها وطول مدتها، وكان واضحاً أنها شخَّصَت بدقّة ملامح المرحلة المقبلة، ومدى ضخامة الضربة التي تلقّتها "إسرائيل"، والخطر الاستراتيجي الذي شعر به قادة الاحتلال، ومِن خلفهم الولايات المتحدة والمشروع الإمبريالي في العالم، فالتهديد الذي نقلَت عمليةُ السابع من تشرين الأول/أكتوبر المواجَهةَ إلى مستوياته في لحظة الانكشاف الإسرائيلية، والتقدّم النوعي لقوى المقاومة في المنطقة، سيدفعان الاحتلال لاستخدام أكثر أوراقه ضراوةً لمنع تثبيت هذه التحوّلات التي باتت واقعاً حاول إنكاره كثيراً.
لم تندفع المقاومة لفتح جبهة حرب واسعة مع الاحتلال، كما لم تحجم عن المشارَكة والمساهَمة في إسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته العادلة، بل رسمت استراتيجية إسنادية، ووضَعَت ملامحَها، وبدأت في تطبيقها من واقع التقدير الصائب لشكل وطبيعة المعركة وأهدافها، واستشراف دقيق للمرحلة الانتقالية التي فتحتها عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
دفع وعيُ المقاومة بضرورة تثبيت التحوّل الاستراتيجي لـ"طوفان الأقصى" لصالح قوى المقاومة، وتثبيت النقاط لصالح مشروع تحرير فلسطين وتفكيك هذا الاحتلال، إلى تصميم شكل المساهمة الإسنادية بطريقة تسمح بأن توازي المقاومة مجريات المعركة الميدانية في قطاع غزة وارتداداتها خارج القطاع، وأن توازي المعركة السياسية للمقاومة والضغط على الاحتلال وحلفائه، خاصة الولايات المتحدة التي انتقلت تدريجيّاً من موقع الشراكة المباشرة في العدوان إلى موقع المتورّط الغارق في أزمات الشرق الأوسط على أبواب موسم انتخابي أميركي مأزوم، وسط تخوُّف مستمرّ من الانجرار نحو حرب إقليمية يبحث حليفُها عن توريطها فيها.
استدعت المقاومة استراتيجيّاً سلاح العجز الأميركيّ عن حسم أيّ بؤرة اشتباك في الشرق الأوسط، وأثبتت للجميع أن زمن الهيمنة الأميركية قد ولّى إلى غير رجعة، كما ولّى زمن التفوّق الإسرائيلي وحسم المعارك بالقوة الغاشمة، فلم ينجح الاحتلال لا في حسم معركته مع قطاع غزة المحاصر، ولا في إيقاف ـــــ أو حتى تخفيض ـــــ وتيرة الاشتباك في الجبهات الإسنادية، والجبهة الأكثر خطورة والتصاقاً في شمالي فلسطين الذي بات كلّ مستوطنِيه مهجّرين بلا مأوى منذ أكثر من ثمانية شهور وبقواعد عسكرية شبه فارغة وضربات لا تتوقّف.
إعادة تصميم الميدان والمشهد العملياتي
منذ الساعات الأولى لاتّضاح مشهد هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان أوّل القرارات العملياتية لهيئة أركان "جيش" الاحتلال تعزيز الحدود الشمالية، ورفع درجة التنبّه واليقظة، وحشد الألوية العسكرية للتعامل مع أيّ مستجدّ على الحدود، وذلك خشية من سيناريو أن تكون العملية ضمن إطار متصل بين الجبهات، أو أن يستثمر "حزب الله" اللحظة وينفّذ خططه باقتحام الحدود والسيطرة على الجليل.
خلق الاستنفار الكبير، وتفعيل كلّ وسائل الاستشعار والتنبيه المبكِّر والإنذار والقدرات الاستخباراتية التكنولوجية والبشرية على أوجهها، واقعاً عملياتيّاً مُعقّداً على المقاومة اللبنانية، فما كان مُتاحاً في الخامس والسادس من تشرين الأول/أكتوبر، لم يَعُد ممكناً في السابع والثامن من الشهر ذاته من هامش للحركة ومجال للمناورة الحدودية اللصيقة.
تطلّب الواقع العملياتيّ الجديد من الحزب تصميم استراتيجية ميدانية تتلاءم مع متطلّبات الميدان الجديدة، ما وضع المقدِّر الميداني للمقاومة وغرف القيادة والسيطرة وإدارة العمليات أمام تحدٍ كبير للتعامل السريع مع ما أفرزه الميدان. فمن جهة المطلوب عدم منح الاحتلال أهدافاً مجانية من مقدّرات المقاومة البشرية والمادية، ومن جهة أخرى تحويل الموقف الإسنادي إلى واقع عملياتي، إضافةً إلى الهدف الأساسي المتمثّل بالاستعداد للتعامل مع سيناريوهات العدوان والتصعيد وتثبيت قواعد الاشتباك بالنيران.
بالعودة إلى التدرّج في نمط وشكل وطبيعة الأهداف، كان من الصعب على الكثيرين قراءة مدى جدية أو أهمية الأهداف التي تُوجَّه إليها نيران المقاومة الإسلامية على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، فيما كان مفهوماً شكل قواعد الاشتباك الضمنية المرتبطة بالتفريق ما بين ضرب الأهداف العسكرية لـ "جيش" الاحتلال، واستهداف عمق مستوطنات الشمال ارتباطاً بهجمات "جيش" الاحتلال واستهداف منشآت مدنية في جنوبي لبنان.
على مدار أشهر، اتضحت قيمة بنك أهداف المقاومة المُستهدَف في شمالي فلسطين المحتلة، فقد هدف ضرب الرادارات وأجهزة الاستشعار وأجهزة الإنذار المبكر والكاميرات الحدودية إلى خلق أوسع عملية تعمية على حدود فلسطين الشمالية، تلتها عمليات التعمية على الرادارات الاستراتيجية في مواقع إدارة العمليات والاستخبارات المُكلَّفة بإدارة العدوان على جنوبي لبنان وقيادة الفرقة الشمالية في "جيش" الاحتلال، وصولاً إلى تعطيل بطاريات القبّة الحديدية وأجهزة الرادار، والاستهدافات المُركَّزة لمواقع تمركز "جيش" الاحتلال وانتشاره على طول الحدود، وفرضت حظر تجوُّل بالنيران في مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة، وقيّدت حركة جنود وضباط "جيش" الاحتلال وآلياته إلى الحدود الدنيا.
نجحت المقاومة اللبنانية في إعادة تخليق واقع ميداني من جديد يتلاءم مع حاجاتها العلمياتية واستعداداتها لسيناريوهات المواجهة، وصولاً إلى سيناريو الحرب الشاملة مع الاحتلال، وحوَّلت الانتباه والتحشيدات الإسرائيلية على الحدود إلى نقمة استنزفت "جيش" الاحتلال وأرهقت جنوده وعطّلت أدواته الاستخباراتية ووسائط دفاعاته، ما سمح بتنفيذ هجمات نوعية جدّاً استهدفت أكثر المقدّرات الاستخباراتية ومواقع إدارة العمليات حساسية، وضرب مواضع عديدة من مفاخر "جيش" الاحتلال، وشكّلت بانوراما مصغّرة حول ما سيكون عليه وضع الاشتباك الشامل.
بوتيرة متزنة ومتسقة، وبالصبر الاستراتيجي المعهود، نجحت المقاومة في تثبيت استراتيجيتها، وأعادت تصميم الميدان بما يتوافق مع حاجتها العملياتية التكتيكية، وبما يخلق واقعاً جديداً يتضمّن استعداداً لسيناريوهات التصعيد، وإعادة رسم لمواضع التمركز حال الوصول إلى الهدوء، فيما يجد الاحتلال نفسه عالقاً في فخّ استنزاف استراتيجيّ يعجز عن مواجهته أو الحد من آثاره.