سألت ريم درويش (32 عامًا) زوجها فور عودته من السوق عما إذا كان قد أحضر وجبة تسكت جوع أطفالهما. فوقع رده على مسمعها كالصاعقة: "لم أحضر شيئًا.. فلا يوجد في السوق ما نأكله".
شهقت درويش بصوت مرتفع وزاد الخوف دقات قلبها؛ ليس على نفسها أو زوجها بقدر ما تخشى على أطفالها الخمسة الذين يتضورون جوعًا مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة وما رافقها من حصار وتداعيات خطيرة على الأوضاع الإنسانية.
تعيش درويش في منطقة الصحابة التي تتوسط مدينة غزة وتشهد ازدحامًا سكانيًا مقارنة بأحياء أخرى اضطر أصحابها للنزوح منها إلى جنوبي القطاع تحت وقع التهديد والقصف الإسرائيلي.
ويعزل جيش الاحتلال محافظتي غزة والشمال عن باقي محافظات القطاع الساحلي على إثر الاجتياح البري يوم 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ومع ذلك أتاح وصول المساعدات لمحافظات الوسطى وخان يونس ورفح وحال دون وصولها إلى محافظتي غزة والشمال.
نصف مليون يجوعون
وتشير تقديرات محلية وأممية إلى أن أكثر من نصف مليون مواطن غزِّي بقوا في محافظتي غزة وشمالي القطاع، ويفرض جيش الاحتلال عليهم حصارًا مطبقًا.
وقالت درويش لموقع "فلسطين أون لاين": لم يعد لدينا ما نأكله ولا يوجد في الأسواق ما نشتريه، وإن توفر فلا نملك ثمنه.
ومع استمرار الحرب على غزة للشهر الخامس على التوالي ارتفعت أسعار المواد التموينية والسلع الغذائية إلى أرقام فلكية بفعل منع وصول كميات مناسبة من المساعدات الإغاثية، إذ وصل ثمن الكيلوجرام الواحد من الدقيق إلى 105 شواقل؛ أي ما يعادل 30 دولارًا.
في حين أن ثمن كيس الدقيق زنة 25 كيلوجرام في جنوبي القطاع يتراوح بين 60- 80 شيقلاً.
وللتغلب على هذه المعاناة، رافق الشاب خالد بلبل (35 عامًا) مجموعة من الأصدقاء إلى شارع الرشيد غرب مدينة غزة؛ حيث كانت قوات جيش الاحتلال قد سمحت في الأيام القليلة الماضية بدخول عدد محدود من شاحنات المساعدات.
ولم تحظَ محاولات بلبل للحصول على كيس دقيق من إحدى الشاحنات رغم الجهد العضلي الكبير الذي بذله بين آلاف المواطنين الذي تواجدوا في نفس المنطقة حينها.
وقال بلبل لـ"فلسطين أون لاين": إن رغيف الخبز أصبح أمنية لأطفالي لذلك قررت المخاطرة بنفسي لانتشالهم من مستنقع الجوع لكن دون جدوى.. فقد أطلقت آليات الاحتلال نيرانها صوب المواطنين وقتلت وأصابت العشرات منهم.
وأضاف بلبل وبدا آسفًا لما وصل إليه حال المواطنين: إننا نعيش مجاعة حقيقية.. فالجوع ينهش أجسادنا وأجساد أطفالنا.
وتساءل: ما ذنب نصف مليون إنسان ليجوعوا بهذه الطريقة؟ ماذا يريد الاحتلال؟
ويرى مراقبون أن منع الاحتلال إدخال المساعدات لسكان شمالي القطاع محاولة إسرائيلية لدفع من تبقى من المواطنين للنزوح بحثًا عن الغذاء.
انتهت صلاحيتها!
وفي كل يوم يرتاد فرج حميد سوق أبو إسكندر بحي الشيخ رضوان، شمالي مدينة غزة، محاولاً البحث عن سلعة صالحة لإطعام أفراد أسرته المكونة من 7 أفراد.
إلا أن زيارته للسوق لم يعد لها أي جدوى كما يقول لـ"فلسطين أون لان"، فندرة المواد الغذائية وأسعارها الفلكية إن توفرت أثارت استغرابه بشدة وجعلته غير قادر على شرائها في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية بفعل الحرب.
وأضاف: إن الارتفاع الجنوني في الأسعار جعلنا نشتري سلع انتهت صلاحيتها لإسكات أطفالنا.. من غير المعقول أن يصل ثمن كيلوجرام الرز إلى 70 شيقلاً.
وتابع: الاحتلال الإسرائيلي يتحمل مسؤولية المجاعة التي يتعرض لها أكثر من نصف مليون مواطن، فلولا منع وصول المساعدات لما ارتفعت أسعار المواد التموينية.
ومع بداية الحرب على غزة، حذر جيش الاحتلال السكان بوسائل عديدة منها الاتصالات والرسائل الهاتفية وإلقاء المناشير الورقية على الأحياء السكنية بضرورة النزوح إلى محافظات جنوب القطاع.
ومع ذلك اقتصر عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" على العمل في محافظات جنوب القطاع، وتعرضت مقراتها للقصف والتدمير.
واضطر المواطنون في شمالي القطاع لتخفيض عدد الوجبات اليومية لأسرهم وأطفالهم إلى وجبتيْن أو واحدة على الأقل يوميًا بفعل عدم توفر الغذاء.
كارثة إنسانية
وقال أستاذ الصحة العالمية في جامعة مانشستر "مكيش كابيلا": من الاحصائيات والشهادات المتوفرة من العاملين في الحقل الإغاثي نستنتج أن الوضع كارثي في غزة وخاصة سكان المحافظات الشمالية.
وبحسب تصريحات رصدها موقع "فلسطين أون لاين" لـ"كابيلا" الذي شغل منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة سابقًا، فإن أحوال سكان القطاع خلال 5 أشهر من الحرب تدهورت وأصبحت مأساوية بسبب استهداف المرافق الصحية، ومنع وصول المساعدات الاغاثية والنقص الشديد في الطعام والماء والأدوية.
وأضاف: الجيش المحتل في أي حرب تقع على عاتقه مسؤولية حماية المدنيين، لكن العاملين في الحقل الصحي والاغاثي بغزة تعرضوا للاستهداف الإسرائيلي.
وبدا "كابيلا" مستغربًا من امتناع حكومة الاحتلال وجيشه عن تقديم المساعدات الإنسانية والحيلولة دون وصولها للأطفال والنساء والمسنين، عادًّا ذلك سياسة عقاب جماعي.