فلسطين أون لاين

"نور قساميين توهج بعد عمل صامت"

"عبد الرحمن" و"حذيفة".. فرحة تبدلت وتضحية لأجل "حب أكبر"

...
"عبد الرحمن" و"حذيفة".. فرحة تبدلت وتضحية لأجل "حب أكبر"
طولكرم-غزة/ يحيى اليعقوبي:

ما أن استيقظ فارس عطا صباح أول من أمس، وبدأ يتصفح هاتفه المحمول لمتابعة تطورات الأحداث التي شهدها مخيم طولكرم مساء اليوم السابق، أطلت صورة نجله عبد الرحمن (23 عامًا)، فتصلبت نظراته ووقف يراقب بصدمة، يتأمل الخبر ويدقق في الكلمات، علها تكون برقية تهنئة من أحدهم، أو خبر إصابة يهون عليه الصدمة، لكن لم تحمل الصورة سوى نعيه.

البيت الذي كان يستعد لاستقبال فرحة زفاف ابنته الشهر القادم، فتح بابا جديدًا لدخول حزن الفقد والفراق، في مشهدٍ يتكرر كثيرًا في بيوت العائلات الفلسطينية التي يقف فيها الاحتلال الإسرائيلي سدًا أمام إتمام مراسم الفرح، فكثيرًا ما تغيرت المراسم وتبدلت.

غادر عبد الرحمن منزله مساء الأربعاء، بعد لحظات سعيدة أمضاها مع عائلته، وفجر اليوم التالي، اشتبك هو ورفيقه حذيفة عدنان فارس (27 عامًا) مع مركبات مستوطنين في مستوطنة "آفني حيفتس" قبل أن يشتبكا مع جنود الاحتلال على إحدى الحواجز العسكرية الجاثمة على أراضي قرية "شوفة" في طولكرم، ويرتقيا شهيدين، ويُحتجز جثمانهما، في حين تبنتهما كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس.

فرحة تبدلت

كانت الدموع تقطع صوت والده لحظة اتصال صحيفة "فلسطين" كما قطعته أصوات المعزين، تماسك أمام جرح الفقد وقال: "تفاجأت في صورته، فأن تستيقظ من النوم لتتصفح المواقع، وبدون مقدمات ترى ابنك شهيدًا! كان الأمر صادمًا وصاعقًا لنا في العائلة، خاصة أننا كنا نجلس معًا قبلها بيوم، وكنا سعداء في تلك الجلسة ويتحدث مع شقيقاته وأمه، ثم خلدنا إلى النوم بينما هو خرج من البيت".

كان يستعد عبد الرحمن لمساعدة والده في تجهيزات فرح شقيقته، تداهم الدموع صوته: "قلت له نريد أن نبيض وجهنا، ولم أدرِ أنه سيبيض وجهي بالشهادة".

اقرأ أيضًا: المقاومة تستهدف موقعًا للاحتلال في طولكرم

في بيئة مخيم شاهدة على حياة اللجوء وقسوة ما يعانيه الشعب الفلسطيني، نشأ عبد الرحمن في مخيم طولكرم ودرس في مدارسه حتى الثانوية العامة التي اجتازها بتقدير جيد قبل أربع سنوات، ولسوء ظروف عائلته المعيشية لم يستطع تحقيق حلمه بأن يكون معلمًا للتربية الرياضية، فاتجه للعمل سائق أجرة.

"لم تسمح الظروف أن نعلمه في الجامعة، خاصة أن شقيقته تخرجت بعده فقمت بتعليمها، وكنا نستعد لمراسم زفافها"، أكمل حديثه بعد أن قاطعه المعزون: "هذا كأس يجب أن يشربه كل إنسان فلسطيني، ونحن في المخيمات ننظر لكل شاب يتجاوز الثامنة والعشرين عامًا أنه مشروع أسير أو شهيد".

صمت قليلًا في لحظة خنقت الدموع صوته، ثم تابع: "قبلها بليلة (الثلاثاء) جلسنا واتفقنا على ترتيب الفرح لكن الفرح كان أسرع مما تخيلت بمشاركة كل هذه الجموع التي توافدت إلينا".

امتاز عبد الرحمن بالتدين وبر والديه، وقد كان محبوبًا في عائلته، ونقل هذا الحب معه في كل أحياء المخيم، يعلق والده بكلمات مليئة بالفخر: "أينما ذهب تسبقه سيرته بالخير والثناء عليه".

بقيت حياة المقاومة شيئًا مجهولاً لوالده، لكن التغير الحقيقي الذي لاحظه في نجله، كشفتها ملامح الحزن الشديد التي لم يستطع "عبد الرحمن" إخفاءها عندما ارتقى صديقاه سامر الشافعي (22 عامًا)، وحمزة خريوش (22 عامًا) برصاص جيش الاحتلال خلال اقتحام مخيم نور شمس بطولكرم في 6 مايو/ أيار الماضي، وبدأ يغيب فترات أطول عن المنزل حتى عاد شهيدًا.

حب أكبر

ذات التأثر الذي لاحظه والد "عبد الرحمن"، عايشه محمد فارس؛ الشقيق الأكبر للشهيد "حذيفة"، إذ تمثل التغير بتركه عمله في قطاع البناء بالداخل المحتل، واتجه للعمل بمقصف مدرسي في مخيم طولكرم.

قبل الحدث بليلةٍ، عايش فارس لحظات جميلة من حياة شقيقه الشهيد الذي اشترى دراجة أطفال لابنه ريان (عامان) وكان يلهو معه في ساحة المنزل، كما كان يلهو مع طفلته آية (عام).

عرف عن حذيفة تعلقه الشديد بعائلته، فهو دائم الخروج للتنزه مع طفليه، ورغم كل هذا الحب ضحى به لأجل حبٍ أكبر، ففلسطين عاشت في قلبه بذات القدر الذي عاشه طفلاه، في انتماء كبير كان حاضرًا بوصيته المصورة التي بدأها بتلاوة آية "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم"، وقال إن: "العملية جاءت ردًا على اعتداءات قوات الاحتلال على الحرائر في القدس".

لم يترك حذيفة سوى إشارة وحيدة في حال عدم عودته للبيت، يقول شقيقه محمد لصحيفة "فلسطين" وهو يقف بين صفوف المعزين: "قبل الاستشهاد بيوم سحب مبلغًا من المال كان قد ادخره خلال عمله بالداخل المحتل، وأعطاه لزوجته، مبررًا لها عندما استغربت من حجم المبلغ الكبير نوعًا ما، أنه قصر معها خلال الفترة الماضية وأن هذا المبلغ لها ولأطفالها، لكنها لم تفهم المقصد إلا عند الإعلان عن استشهاده".

اقرأ أيضًا: صبحة: ما جرى في طولكرم تأكيد على تمكن المقاومة وتجذرها

لا تزال الصدمة أيضًا حاضرة في حديث شقيقه: "لم تكن أي مقدمات تشي لنا بأنه في صفوف المقاومة، فحياته دائمًا لعائلته، حتى أننا لم نصدق الأخبار إلا عندما جرى إخبارنا رسميًا".

قبل استشهاد حذيفة اجتاح الاحتلال المخيم، في أحداث تابعها شقيقه، إلى أن تلقوا خبر إصابته ثم استشهاده.

بينما كان إخوانه يتابعون الحدث، كان والده عدنان فارس (63 عامًا) يعمل في أحد البساتين بالداخل المحتل، وفي هذه الأثناء تلقى اتصالًا يطلب منه العودة للمنزل لأمر طارئ، فلما عاد وجد تجمعًا للعائلة في المنزل تلاه صدمته بفقد أصغر أبنائه، وتركه "قطعتين منه يواسيان جدهما ويتربيان بين حبات عينيه" كما قال.