كان واضحًا حديث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في حديثه مع شبكة فوكس نيوز بخصوص التطبيع مع (إسرائيل)، حيث قال: إن المملكة تقترب كل يوم أكثر فأكثر للتطبيع مع (إسرائيل)، وأن لا صحة للمعلومات التي تقول إن السعودية أوقفت حواراتها أو مفاوضاتها مع (إسرائيل) بهذا الشأن، نظرًا إلى عدم قبول (إسرائيل) بأن يكون التطبيع مقابل دولة فلسطينية، ولكن ذكر ولي العهد السعودي أن المفاوضات مع (إسرائيل) تشمل تحسين وتسهيل حياة الفلسطينيين. حديث ولي العهد السعودي كان متسقًا مع خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حينما عرض خارطة للتطبيع مع الدول العربية، ولم تكن هذه الخارطة تشمل أي حدود لدولة فلسطين أو "الأراضي الفلسطينية" بالمصطلح المستخدم أمريكيًا.
السعودية حينما تسير في مسار التطبيع مع الاحتلال هي تسعى بشكل أساسي لتحقيق مصلحة سعودية تتمثل في حصول المملكة على موافقة (إسرائيل) لتشغيل مفاعلات نووية، والحصول على أسلحة أمريكية متقدمة وضمانات أمنية أمريكية للسعودية.
سوق التطبيع الرائج هذه الأيام عربيًا يشير بوضوح إلى أن الدول التي تسعى أو أنها سعت للتطبيع مع الاحتلال إنما تقايض التطبيع بمكاسب خاصة بكل دولة، وذلك على حساب القضية الفلسطينية التي كانت تعد يومًا القضية المركزية للعرب، ويتم ذلك تحت شعار كاذب من قبل أن السعودية أولًا أو المغرب أولًا أو السودان أولًا وهكذا، وأصبح الأمر بمثابة سوق تحكمه قواعد العرض والطلب، فالعرض العربي هو التطبيع، والطلب عليه هو "إسرائيلي" أمريكي بالدرجة الأولى وغربي بعد ذلك، وما بين العرض والطلب تتم المفاوضات والمقايضة، ولا بأس بأن يؤتى على ذكر الفلسطينيين على هامش الصفقة كنوع من ذر الرماد في العيون، كي لا يقال إن "قضية العرب" الأولى قد نُسيت. بل إنني أزعم أن القادة العرب أصبحوا ينظرون إلى قضية فلسطين على أنها قضية ليست على تلك الأهمية التي "يدعيها الفلسطينيون"، وبأن الحلول المعروضة من قبل الاحتلال والإدارة الأمريكية يجب القبول بها للخروج من حالة الصراع المستمر منذ سبعين عامًا بلا جدوى، وإن شئت بسبب تعنت الفلسطينيين -من وجهة نظرهم طبعًا-، ولذلك تجدهم يوافقون على كل مبادرة تطلقها الإدارة الأمريكية أو (إسرائيل) من خلال الإدارة الأمريكية مهما انخفض سقفها. وصفقة القرن مثال واضح على ذلك التوجه العربي، حيث حاولت بعض الدول الخليجية أن تسوق لها وتقنع بها الفلسطينيين، وفي سبيل ذلك عقدت ورشة عمل في المنامة في يونيو 2019 نظر فيها مستشار الرئيس الأمريكي السابق كوشنير لصفقة القرن بحضور معظم الدول العربية.
اقرأ أيضًا: هل يقلب التطبيع الشرق الأوسط رأسًا على عقب؟
اقرأ أيضًا: التطبيع والغطاء الفلسطيني
سوق التطبيع العربي المفتوح حصل فيه المغرب على اعتراف الإدارة الأمريكية بالسيادة على الصحراء الغربية، وحصلت فيه السودان على شطب من قائمة الدول الداعية للإرهاب وإقامة علاقات طبيعية مع مجلس السيادة السوداني ووعود بدعم الاقتصاد، وحصلت فيه الإمارات والبحرين على الحماية الإسرائيلية والأمريكية ضد إيران، وهكذا تدخل الدول العربية سوق التطبيع خلسة وبسرية تامة، وتبدأ المفاوضات ومن ثم يعلن عنها حينما تنضج، وبعد أن تحصل الدولة العربية المعنية على مكتسباتها الخاصة، ثم حينما يُعلَن عن الاتفاق، تُطلَق التصريحات التي تدّعي أن التطبيع هو في مصلحة الفلسطينيين؛ على اعتبار أن العلاقات الطبيعية مع "إسرائيل" ستجبرها على احترام الحقوق الفلسطينية، رغم أن قادة الاحتلال ما فتئوا يصرحون ليل نهار أن التطبيع لن يكون على حساب أمن "إسرائيل"، ذلك الأمن الذي يرفض فكرة وجود دولة فلسطينية، كما صرح نتنياهو مؤخرًا، أنه يجب اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية من جذورها.
طبعًا من نافلة القول أن التطبيع العربي على هذا النحو المتسارع لم يكن ليحدث لولا الاعتراف الذي قدمته قيادة منظمة التحرير للاحتلال على طبق من ذهب؛ الأمر الذي فتح باب التطبيع على مصراعيه تحت شعار: لن نكون ملكيين أكثر من الملك.
قديمًا كانت الحكومات العربية تأتي للحكم تحت شعار تحرير فلسطين، باعتبار أن القضية الفلسطينية معزِّز لشرعية الحكم لأي نظام عربي، أما اليوم فقد انقلب الحال ليصبح التطبيع مع الاحتلال هو المعزز لشرعية الحكم العربي في ظل غياب الحكم الديمقراطي الذي يمثل الشعوب تمثيلًا صحيحًا وحقيقًا.
ولكن بالرغم من سوق التطبيع المفتوحة أبوابه واسعًا هذه الأيام، لا بد من تأكيد حقيقة واضحة؛ أن التطبيع مهما سُوِّق له إنما هو تطبيع مع حكومات بل مع أشخاص بعينهم ينتهي بانتهاء دورهم، لأن الشعوب دائمًا تنبض بحب فلسطين، ولنا في الشعب الليبي عبرة.