بمسامير رفيعة، ومطرقة صغيرة، وفرشاة ملأها ببعض الغراء، وماكينة خياطة، يُصلح الإسكافي نبيل خريم الأحذية والحقائب في سوق العطارين، أحد أقدم الأسواق الواقعة داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، وهو من القلائل الذين لا يزالون يتمسكون بتلك المهنة.
لازم خريم (73 عامًا) أبيه الذي عمل إسكافيًا في الحرفة ذاتها، فكان يساعده بعد فراغه من المدرسة حتى تفرغ لها تمامًا في عام 1965م.
ترك خريم المدرسة في سن مبكرة واتجه نحو العمل في الحدادة، وفي الوقت ذاته كانت تشده حرفة والده للوقوف أمام ماكينة الحياكة حتى قرر بعد عام ترك العمل في الحديد والتفرغ التام لمساعدة والده في تصليح الحقائب والأحذية، إذ كان الناس يقبلون بكثرة على الإسكافيين في تلك المرحلة.
لم يترك خريم ماكينة حياكة الأحذية في أسواق القدس العتيقة منذ 55 عامًا، فتنقل بين سوق خان الزيت، ومن ثم سوق اللحامين، حتى استقر في سوق العطارين.
عمل خريم برفقة والده 25 عامًا، وبعد وفاته لم يتخلَّ عن المهنة وواصل العمل على آلات الخياطة والمعدات التي ورثها عنه.
اقرأ أيضًا: صالون المقدسي "أبو خلدون".. مزار سياحي وديوان سياسي
ويقول: إن مهنة الإسكافي آخذة في الانقراض، فقبل 40 عامًا تواجد في أسواق البلدة القديمة ثلاثين إسكافيًّا، واليوم يقتصر عددهم على ثلاثة فقط.
ويصمم خريم على الوقوف في متجره "طالما يتمتع بصحة وعافية"، مشيرًا إلى أنه وشقيقه من 4 إخوة هما من احترفا المهنة التي يخشى عليها من الاندثار بسبب موت أصحابها ورفض أبنائهم والشباب امتهانها، ورغبتهم بالبحث عن مهنة أكثر عصرية وتُدر مالًا أكثر.
ويضيف: "عمل معي أخي 20 عامًا وترك المهنة، كما أن ابني امتهن هذه المهنة لمدة عشر سنوات، ولكنه تركها لكي يوفر دخلًا أكبر ومنذ 16 عامًا يعمل في تمديدات الكهرباء".
ويعزو خريم تراجع الإقبال على الإسكافي إلى حركة الصناعة الكبيرة في مجالَي الأحذية والحقائب وبأسعار في متناول الجميع، "وهي في الوقت نفسه رديئة الجودة، فعند تلفها يتخلص منها الناس لأنها منخفضة التكلفة ويشترون أخرى جديدة، بعكس أسعار الأحذية والحقائب قديمًا فكانت مرتفعة التكلفة، لذا كان الناس يهتمون بالمحافظة عليها وصيانتها".
يخرج الرجل السبعيني من منزله في جبل الزيتون (الطور) شرق القدس المحتلة باتجاه البلدة القديمة، ليفتح محلّه عند التاسعة صباحًا، ويُغلقه قبل العصر.
ويبين أنه يؤدي صلواته في المسجد الأقصى الذي لا يبعد كثيرًا عنه، "تشعر ببركة الله مع كل خطوة تخطوها للمسجد الأقصى، ولرزقك وعملك صباح كل يوم"، مشيرًا إلى أنه لا يحب المكوث في البيت، "فالعمل نشاط وصحة، وكفاية بيتي بدخل حتى لو قليل أفضل من مد اليد للآخرين".
ويلفت إلى أن زبائنه الذين يقصدونه لإصلاح أحذيتهم وحقائبهم لا يقتصرون على الفقراء كما يعتقد البعض، "فهناك من ميسوري الحال يريدون المحافظة على أحذيتهم باهظة الثمن، فلا أحد يستغني عن لبس الأحذية إطلاقًا".
وتتكون أدوات الإسكافي خريم من بكرة خيوط، وإبر ذات حجم كبير، ومطرقة وسندان، ومقص ومبرد، وقطع جلدية وغراء، وعلبة مسامير يخصصها لتثبيت النعول، مشيرًا إلى أن بعض الزبائن يفضلون إصلاح أحذيتهم بدق المسامير بدلًا من خياطتها.
اقرأ أيضًا: أسطح أسواق القدس القديمة تصبح هدفًا للاستثمار السياحي الاستيطاني
ويشدد على أن رأس ماله "سمعتي الحسنة، ومصداقيّتي مع الزبائن، وتسليمهم أغراضهم في الوقت المحدد".
وأدى الركود الاقتصادي الناجم عن حصار القدس بالحواجز والجدار العنصري إلى إغلاق نحو 1400 محل في البلدة القديمة، منذ احتلال الجزء الشرقي للمدينة عام 1967، حتى اليوم، في واقع جعل التجار يناضلون من أجل الإبقاء على محالهم مفتوحة.
ولا يحافظ صمود المقدسيين في محالهم التجارية في القدس على تراثهم وبقاء المهن والحرف الخاصة بهم فحسب، بل يساعد على بقاء الوجود الفلسطيني برمّته في المدينة المحتلة.
ويُعرف الإسكافي خريم واحدًا من أعلام أسواق البلدة القديمة، ينتظرونه حتى لو أطال الغيبة، فرجوعه إلى هذا المحل الصغير المستطيل الذي يعمل فيه بكل حبّ، "فهو قطعة من روحي، ولا يمكنني تركه مهما طال بي العمر، أحببت عملي منذ البداية وسأستمر بها حتى النهاية، لكي أحفظ هذه المهنة من الاندثار فهي جزء من هويتنا التراثية".