فلسطين أون لاين

صالون المقدسي "أبو خلدون".. مزار سياحي وديوان سياسي

...
صالون المقدسي أبو خلدون
القدس المحتلة-غزة/ هدى الدلو:

على بعد أمتار من المسجد الأقصى يواظب الثمانيني عبد الرزاق خوجة على فتح صالون الحلاقة الخاص به في شارع باب السلسلة منذ 62 عاماً، يرتاده يوميًا من الساعة العاشرة صباحًا حتى ساعات المساء.

اقتحم العم "أبو خلدون"، كما يناديه زبائنه، هذه المهنة عندما كان في المرحلة الإعدادية، مرافقاً والده الذي عمل في المهنة منذ الحرب العالمية الأولى حتى وفاته في عام 1983، مشيرًا إلى أن صعوبة الوضع الاقتصادي حينها دفعته إلى ذلك، فعائلته تتكون من 12 فردًا ولم يكن المصروف الذي يتلقاه يكفي لتلبية كل رغباته.

ويشرح خوجة ما يعني برغباته: "في مطلع شبابي كنت أحب حضور عروض السينما، وطمعًا في زيادة مصروفي الخاص تحدثت مع والدي عن رغبتي في خدمة الزبائن داخل الصالون، والحصول على أجرة عامل. من فرحته بقراري أبدى سعادته ودعمه بتعلمي المهنة، وأخبرني أن كل ما أحصله من الزبائن سيكون لجيبي".

ويقول "أبو خلدون" إن عائلته تتوارث مهنة الحلاقة منذ 108 أعوام، وتتمسكُ بصالونها البالغة مساحته نحو 14 مترًا مربعًا، مشيراً إلى أنه بدأ مساعدًا لوالده الذي تعلم منه أسرار المهنة وفنونها. أما أبرز ما أخبره به فهو أن "هذه الصنعة كسوار من ذهب إذا لم يغنِ صاحبه ستره".

أصول المهنة

في بداية عمله كان العم "أبو خلدون" يتدرّب على الحلاقة على رؤوس طلبة المدارس الذين كانوا يحلقون شعورهم قريباً من "الصفر، بسبب شح المياه في ذلك الوقت"، وما إن أنهى مرحلة الثانوية العامة، حتى أصبح "مُعلمًا" متمكّنًا من فنون الحلاقة للفئات العمرية كلها.

وبعد الثانوية العامة، بدأ "أبو خلدون" العمل موظفًا في البريد، ومارس الحلاقة كهواية، "كُنت يَد والدي اليمنى؛ لأنه كَبر في السنّ، وعندما تُوفي بدأت أعمل نصف النهار هُنا، ونصفه الآخر هُناك، وبقيت على هذه الحال حتى تقاعدت من عملي في البريد عام 1998 وتفرّغت بشكلٍ كامل لصالون الحِلاقة".

وعلم العم "أبو خلدون" ابنه الأكبر الحلاقة، وأصبحً "مُعلمًا" فيها، يُمارسها كهوايةٍ إلى جانب وظيفته الأساسية "الطبخ"، ويُعيل والده ويُسنده في المناسبات والأعياد وأيام الجُمع.

ومنذ عمله في هذا المجال في الستينيات من القرن الماضي حتى اليوم تعلم العم "أبو خلدون" أن المعاملة الطيبة للناس أكثر ما يمكن أن يجذب الزبون، خاصة أنه يمر على المحل أعلم الناس وأجهلهم، "فعلى الحلاق مسايرة كل الطبقات، فهو كالطبيب النفسي عليه تحملهم بمختلف مزاجاتهم"، وفق قوله.

ويشير إلى أن الحلاقة في الماضي اختلفت كليًا عن اليوم، فقد كانت تتشابه مع بعضها، ولكن اليوم في ظل الانفتاح وجريان البعض خلف الموضة وملاحقة قصات شعر لاعبي كرة القدم والمطربين اختلف الأمر، ولكن يجب عليه تقبل كل الطلبات. 

طابع قديم

ولا يزال صالون العم "أبو خلدون" يُحافظ على طابعه القديم، وأدواته، حتى يجعل كلّ من يراه يتسمّر أمامه متأملًا التفاصيل النادرة، ويرى تاريخ القدسِ في أحقابٍ زمنية مختلفة، مرورًا بالعهد العثماني، وزمن الاحتلال البريطاني، وحتى يومنا هذا.

ويقول إن الصالون لا يزال يحتفظ بطابعه منذ أيام والده، مع بعض التغييرات البسيطة التي أجريتها عام 1987، كتحديث البلاط والمرايا، واستخدام أدوات حِلاقة كهربائية عِوضًا عن اليدوية".

ويُفسر عدم قيامه بتحديثاتٍ كبيرة "باعتزازه بمحبةِ والده للصالون، وذكرى من رائحته الطيّبة"، مستطردًا: "المحل يحظى باهتمامٍ كبيرٍ من السُياح والزائرين الأجانب، ويلفتُ أنظارهم، لكونهُ معلمًا مهمًا في البلدة القديمة، ويُشبه "المتحف القديم"، الذي يسرق أنظار كل من يراه".

ويصف ما يحدث مع السياح بنبرةٍ سعيدة: "الصالون يجعل الأجانب يقفون بجانبه بعض الوقت، مندهشين أمام الجمال الفلسطيني الصامد على مرّ العصور، يلتقطون الصور، ويرسلونها إليّ، ومن ثمّ يكسبون تجربةَ حلاقةٍ مُميزة كذكرى من المدينة المُقدّسة".

صالون سياسي

ونظرًا لموقع محله الواقع في البلدة القديمة في القدس فقد شهد صالون العم "أبو خلدون" الكثير من الأحداث والفترات التاريخية والسياسية التي مرت بها المدينة، التي أثرت كثيرًا في حياة سكانها وأصحاب المتاجر والحرف.

ويقول: "كلما كانت هُناك أحداث تأثرت التجارة سلبيًا.. نحن هُنا نعتمد بشكلٍ أساسي على السياحة، ولا يوجد لدينا زراعة أو مصانع"، مشيراً إلى المضايقات التي تتعرض لها المتاجر في أثناء فترة الأعياد اليهودية، حيثُ تفرض سلطات الاحتلال تشديدات أمنية وعسكرية على البلدة القديمة وتمنع الحركة، وتتراجع الحركة التجارية.

وأصبحت الحلاقة جزءًا لا يتجزأ من حياته فينتظر بزوغ نهار جديد ليفتح أبواب محله أمام زبائنه ويستمتع بيومه، فبات الصالون مكانًا للقاء الأصدقاء ومناقشة الأمور المحلية والسياسية والحصول على النصائح والمشورة، قائلاً إنه سيبقى متمسكًا بمهنته حتى يأخذ الله وداعته.