فلسطين أون لاين

في الذكرى التاسعة لاستشهاد محمد إبراهيم أبو شمالة

كان يوماً كئيباً، والقلق يرخي بظلاله على عتمة الليل، ولا صوت يعلو فوق صوت القصف الصهيوني لمنطقة تل السلطان في رفح، قلوبنا تهفو هناك، نحن سكان خان يونس، وتهتز مفاصلنا مع كل دوي، وما أقرب المسافة بين مخيم خان يونس ومخيم رفح، فالعشق يُذيب المسافات.

كانت أُتباع الأخبار حتى الخامسة فجراً، حين رن جرس الهاتف، وكان المتصل خليل إبراهيم أبو شمالة، الأخ الأكبر لمحمد أبو شمالة، لقد ارتعب قلبي، وارتجفت روحي، فماذا يريد أن يقول لي خليل قبل صلاة الفجر؟

ماذا يحمل هذا الهاتف من أخبار؟ ماذا يخبئ هذا الفجر من دموع؟ ما الداعي لهذا الاتصال المبكر، والذي يجيء بعد قصف عنيف لمدينة رفح؟

فتحت الهاتف، ويداي ترتجفان

صباح الخير، قالها خليل إبراهيم بأنفاس متقطعة، وبصوت متهدج، وبكلمات مغمسة بالبكاء، عظم الله أجركم، لقد ارتقى محمد أبو شمالة ورفيق دربه رائد العطار، لقد وصلت إليهم يد العملاء، وكانوا هم الهدف للغارات الوحشية هذه الليلة، لقد صعدت روح محمد إلى رب محمد.

اقرأ أيضًا: 6 أعوام على استشهاد قادة القسام الثلاثة "العطار" و"أبو شمالة" و"برهوم"

اقرأ أيضًا: "العطار" و"أبو شمالة".. توأما المقاومة عاشا معًا وضمَّهما قبرٌ واحد

ماذا أقول في تلك اللحظات، التي يرقص فيها عدونا على ألحان النصر والتشفي؟ ماذا أقول وسط هجيع الموت، والعدو يدق طبول الفرح؟

ماذا أقول؟ والروح تنوح لأفول نجمين، وانهيار جبلين، وخسارة عمق وطني وإسلامي يعبئ البراري، ويحاكي السحاب؟ بماذا أرد على حشرجة صوت الناعي، والعين تغرق بالدموع، صمت كلانا، وسكت الكلام، ولم نجد إلا جملة واحدة نرددها معاً، لا إله إلا الله، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.

بعد لحظات من الوجوم والحزن، كتبت على صفحتي في الفيسبوك:

على أثر الغارات العنيفة طوال الليل على مدينة رفح، ارتقى إلى العلى فجر اليوم كل من الشهيد محمد أبو شمالة، ورفيقه رائد العطار.

وبعد ثوانٍ معدودات، قلت في نفسي: وهل من حقي أن أنشر الخبر؟

وهل محمد أبو شمالة يخصنا وحدنا، نحن عائلة أبو شمالة؟ هل محمد ابن العائلة فقط؟ أم هو ابن لكل فلسطين، وابن لتنظيم حركة حماس، والتنظيم هو صاحب الحق في النعي، وفي تحديد اللحظة المناسبة لنعي الأبطال؟

قلت في نفسي: ربما لا تُريد حركة حماس نشر الخبر؟ ربما له تكتيك تنظيمي وإعلامي لا أدركه أنا، فلماذا أقطع الطريق على التنظيم، وأحرق المراحل؟

وعلى الفور، وبعد ثوانٍ معدودات، حذفت الخبر عن صفحة الفيسبوك، وأيقنت أن حزني على محمد أبو شمالة لا يساوي شيئاً من حزن رفاقه، وقادته، وجنوده، وإخوته في الميدان، هم أدرى مني، وأقدر مني على تقدير الموقف.

ورغم تداركي للخطأ، وحذفي السريع للمنشور، إلا أن الخبر طار في الآفاق، وانتشر كالنار في الهشيم، وتناقلته وكالات الأنباء، وأنا في غاية القلق والحرج، ولم يهدأ لي بال إلا بعد ساعات، عندما نعت كتائب القسام، وبشكل رسمي شهداءها الثلاثة محمد أبو شمالة، ورائد العطار، ومحمد برهوم.

لقد أوجعتنا اتصالات الهاتف أكثر من مرة، ففي تاريخ 27/7، من العام 2014، كنت في لقاء تحليلي لأخبار الحرب مع فضائية الأقصى، وكان الهاتف يرسل إشارات، بأن على الخط من يتصل، ويلح بالاتصال.

أكملت اللقاء عبر فضائية الأقصى، وقبل أن أفتح خط الهاتف، دققت في اسم المتصل، فإذا به هشام ابن أخي عقيل، وقتها قلت في نفسي: رحم الله ابني حازم، فلا خبر يحمله لي هشام عقيل في هذا الصباح غير خبر استشهاد حازم.

قال هشام: هل سمعت أخبار حازم؟

قلت، ودون تردد: رحمه الله.

قال: متى عرفت؟ 

قلت: عرفت من اتصالك في هذا الوقت!

وقبل أن أغلق الهاتف، كانت فضائية الأقصى تعاود الاتصال، وتستوضح عن صحة خبر استشهاد حازم فايز أبو شمالة، وسط استغراب المذيع، الذي قال: هل هو ابنك؟ 

قلت: نعم

قال: ألم تكن تتحدث مع الفضائية قبل قليل؟

قلت: بلى، وقد جاءني خبر النعي الآن.

قال المذيع: ترددنا في نشر الخبر قبل أن نرجع إليك، ونتأكد منك. عظم الله أجركم.

قلت بجلد وثبات: شكر الله سعيكم، وطويت حزني كله في صحائف الأيام، ومسحت دمعة نزفت على فراق حازم، ولكنها تدفقت كالأنهار يوم فراق محمد إبراهيم أبو شمالة.