سارعت (إسرائيل) إلى شيطنة الاتفاق الإيراني الأميركي، الذي تم التوصل إليه بوساطة قطرية، والذي شمل تبادلا للأسرى بين الجانبين، والإفراج عن ودائع إيرانية بقيمة 10 مليارات دولار، والتزام طهران بتجميد أنشطة تخصيب اليورانيوم في منشآتها النووية. فقد عدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -في بيان صادر عن ديوانه- الاتفاق بمثابة تشجيع للإرهاب في المنطقة، بزعم أن إيران ستوظف الودائع المفرج عنها في تمويل أنشطة التنظيمات المتحالفة معها، مذكرا بموقف (إسرائيل) الداعي إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل.
ومهاجمة نتنياهو للاتفاق تعكس إحباطا من فشل إستراتيجيته في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، وعجزه عن التأثير على موقف إدارة الرئيس جون بايدن.
فالاتفاق لا يدلل فقط على رفض واشنطن موقف (تل أبيب) المُطالب بتكثيف العقوبات الاقتصادية على طهران والتلويح بخيار عسكري يمكن الوثوق به لإجبارها، على الأقل، بالالتزام بما جاء في الاتفاق النووي الأصلي الذي وقع عام 2015، بل إن الاتفاق يشي بتسليم إدارة بايدن بوصول إيران إلى مكانة دولة على حافة قدرات نووية. فعلى الرغم من أن إيران قد التزمت بوقف تخصيب اليورانيوم، إلا أن الاتفاق، في المقابل، يسمح لها بالاحتفاظ بكميات اليورانيوم التي تم تخصيبها بنسبة 20% و60%.
اقرأ أيضًا: أثر الصراع الإيراني الأمريكي في القضية الفلسطينية
اقرأ أيضًا: التوتر الأمريكي الإيراني.. شأن إسرائيلي بامتياز!
ومن هنا، لم يكن من سبيل الصدفة أن يصف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق تامير هايمان -في تغريدة كتبها على حسابه على تويتر- الاتفاق الجديد بأنه "أسوأ اتفاق يمكن أن تتوصل إليه إيران والولايات المتحدة"، حيث عد هايمان اتفاق 2015 بأنه "حلم وردي" مقارنة بهذا الاتفاق. لكنه في نفس الوقت اعتبر الاتفاق الجديد، رغم مساوئه الكبيرة، أفضل من الواقع الحالي، على اعتبار أنه يضمن على الأقل وقف عمليات تخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية الإيرانية.
وإن كان تبادل الأسرى هو المسار الذي قاد إلى الاتفاق الإيراني الأميركي الأخير، فإن التقديرات السائدة في (إسرائيل) تتوقع أن يكون هذا الاتفاق مقدمة لاتفاق نووي شامل بين الطرفين، تحديدا في حال أسفرت الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة عن فوز بايدن.
ولكن نتنياهو وبقية مكونات نخبة الحكم في (تل أبيب) يعون أنه لا يوجد لدى إسرائيل بدائل أخرى أفضل يمكن الاعتماد عليها في مواجهة البرنامج النووي الإيراني. فقد تبين أن إستراتيجية نتنياهو لمواجهة النووي الإيراني أفضت تحديدا إلى اندفاع طهران نحو تطوير برنامجها الذريع ووصولها إلى مكانة دولة على حافة قدرات نووية. فإيران لم تتجاوز بنود اتفاق 2015 وتنتج الآلاف من أجهزة الطرد المركزي المتطورة المستخدمة في تخصيب اليورانيوم وتقدم على تخصيب اليورانيوم بنسبة وصلت إلى 60%، إلا بعد أن قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي تحت ضغط وتأثير نتنياهو.
ويرى الكثير من قيادات جيش الاحتلال والموساد، وهو الجهاز المكلف بمواجهة البرنامج النووي الإيراني، أن نتنياهو ارتكب خطأ إستراتيجيا جسيما عندما دفع ترامب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، على اعتبار أن هذا التطور أضفى شرعية على إقدام إيران على تجاوز التزاماتها في الاتفاق.
ومما يفاقم الأمور تعقيدا حقيقة أنه تبين بالدليل القاطع أن حرب الظلال التي شنها الموساد، بتعليمات من نتنياهو، ضد البرنامج النووي الإيراني، والتي شملت تفجير مرافق نووية، وتصفية علماء وخبراء ذرة إيرانيين، وشن هجمات سيبرانية لشل البنى التحتية التي يعتمد عليها برنامج طهران النووي، قد فشلت في تحقيق الرهانات عليها. وترى قيادات وازنة في جيش الاستخبارات الإسرائيلية أن حرب الظلال أسهمت فقط في تأجيج دافعية إيران لمواصلة تطوير برنامجها النووي.
وفي الوقت ذاته فقط فشلت التكتيكات الأخرى التي أقدمت عليها (إسرائيل) في محاولتها لإحداث تحول على الموقف الأميركي والغربي من أنماط التعاطي مع البرنامج النووي الإيراني. فقد تبنت (إسرائيل) خلال الأشهر الأخيرة تكتيكات رئيسية، تمثلا في إطلاق تهديدات بشن جيش الاحتلال عملا عسكريا واسعا ضد المنشآت النووية الإيرانية دون التنسيق مع إدارة بايدن؛ فضلا عن الدعوة لفرض عقوبات جديدة على طهران ردا على دعمها المجهود الحربي الروسي في الحرب ضد أوكرانيا بالمسيرات والصواريخ.
فقد تبين لإدارة بايدن أن التهديدات الإسرائيلية بشن ضربة عسكرية كبيرة ضد المنشآت النووية الإيرانية غير مصدقة وأنه لا يوجد لدى (تل أبيب) القدرات والإمكانية الكفيلة بتوجيه هذه الضربة وتحمل تبعاتها، سيما إمكانية انفجار مواجهة مع حزب الله في أعقابها. فضلا عن أن حالة الاستقطاب السياسي والتشظي المجتمعي التي تعيشها (إسرائيل) حاليا في أعقاب طرح حكومة نتنياهو خطة "التعديلات القضائية" تقلص من قدرة (إسرائيل) على خوض غمار عمل عسكري يمكن أن يفضي إلى مواجهة إقليمية شاملة.
فتصريحات قيادات جيش الاحتلال العلنية -التي تؤكد تآكل كفاءته وجاهزيته لخوض الحرب نتاج رفض عدد كبير من ضباط وجنود قوات الاحتياط أداء الخدمة العسكرية احتجاجا على التعديلات القضائية- تشي بأن تهديدات (تل أبيب) تفتقر إلى المصداقية.
وفي الوقت ذاته، فإنه على الرغم من تعبير الولايات المتحدة عن استيائها الشديد من تزويد إيران روسيا بالمسيرات والصواريخ إلا أن الرئيس بايدن معني بتهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط، سيما مع اقتراب خوضه سباق التنافس على ولاية رئاسية ثانية مما يدفعه لتجنب مسار يمكن أن يفضي إلى تصعيد مع إيران.
ومن هنا، فإن نتنياهو، رغم مسارعته لشيطنة الاتفاق الجديد، فهو يدرك في قرارة نفسه أنه لا يوجد لدى (إسرائيل) بدائل أخرى يمكن الاستناد إليها في التعاطي مع البرنامج النووي الإيراني، الذي سبق أن أعلن أن مواجهته تقع على رأس أوليات حكومته.
وقد لعب التوتر في العلاقات بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن أيضا دورا في عدم مراعاة واشنطن مواقف (تل أبيب) من البرنامج النووي الإيراني. فقد وجهت إدارة بايدن انتقادات علنية لعدم تحرك حكومة نتنياهو لوقف جرائم المستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين في أرجاء الضفة الغربية، والتي استهدفت أيضا مواطنين فلسطينيين يحملون الجنسية الأميركية.
فضلا عن انزعاج واشنطن من المواقف والسياسات التي تتبناها حكومة نتنياهو من الصراع مع الشعب الفلسطيني والتي أسدلت الستار على أية إمكانية لتحقيق "حل الدولتين"، تحت تأثير قوى اليمين الديني الخلاصي، التي تمثلها بشكل خاص حركة "القوة اليهودية" التي يتزعمها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وحركة "الصهيونية الدينية" التي يقودها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
لكن ما تقدم لا يعني أن نتنياهو سيتراجع عن موقفه من الاتفاق الإيراني الأميركي، حيث إنه يراهن على صعود ترامب مجددا أو مرشح جمهوري آخر إلى سدة الحكم في واشنطن، على اعتبار أن هذا التطور قد يسمح بتبني الولايات المتحدة مواقف من النووي الإيراني تتماهى مع مواقفه، وإن كان قد تبين أن رهانه على ترامب قد أفضى إلى نتائج عكسية.
قصارى القول، فمهاجمة (إسرائيل) الاتفاق الإيراني الأميركي تشي بالأساس بعجزها وقلة حيلتها ومحدودية تأثيرها على مسار العلاقة الأميركية الإيرانية.