تصاعدت وتيرة الاعتقالات السياسية في الضفة الغربية في أعقاب الانتصارات التي حققتها المقاومة في جنين تحديداً، وقد اندحر الاحتلال يجر وراءه خيبات الهزيمة، لكن يبدو أن هذا لا يعجب أجهزة أمن السلطة، الشريك الحصري للاحتلال في التعاون الأمني ضد أبناء شعبها، الذي يدفع الغالي والنفيس منذ عقود طويلة من أجل الحرية والاستقلال والدفاع عن أرضه ووطنه وقضيته ومقدساته، التي تنتهك ليلاً ونهاراً على مرأى ومسمع السلطة، دون أن تحرك ساكناً، وكأنها غير معنية بما تقوم به قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين من اجتياحات، ومداهمات، واعتقالات، وتصفيات، ونهب وسرقة للأراضي، ومصادرة البيوت، والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك.
لقد بلغت هذه الاعتقالات ذروتها بشكل خاص في مدينة جنين، في أعقاب الحديث عن خطة أمنية طرحت بشكل واضح بعد جنازة وزير الأسرى السابق والقيادي في حماس وصفي قبها، وكشفت صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية أن محمود عباس قرر تغيير قادة الأجهزة الأمنية في جنين، وأوعز بعملية عسكرية فيها، وتبعه تصريح محافظ جنين أكرم الرجوب، بأن "أبناء المؤسسة الأمنية كافةً يبذلون جهوداً كبيرة في حفظ الأمن والنظام، وإرساء سيادة القانون".
الاعتقال السياسي بالضفة تنفي السلطة وجوده، بينما تقول مجموعة "محامون من أجل العدالة" في تقريرها أنها تابعت منذ بداية العام ما يزيد على 300 ملف اعتقال سياسي، منها ما يقارب 80 ملفاً منذ مطلع مايو/أيار الماضي، وانتقدت المجموعة الحقوقية "مزاعم الناطق باسم الأجهزة الأمنية بعدم وجود أي حالة اعتقال سياسي"، مضيفة أن "عشرات المعتقلين من طلبة جامعات وناشطين وصحفيين ما زالوا معتقلين"، وفق قائمة نشرتها المجموعة الجمعة الماضية، فإن من أبرز المعتقلين السياسيين مصعب اشتية، بالإضافة إلى معتقلين آخرين من طلاب جامعات، أبرزهم: رئيس مجلس طلبة جامعة بيرزيت عبد المجيد حسن، ورئيس مجلس طلبة جامعة بيرزيت سابقاً عمر الكسواني، ومراد وليد ملايشة المطارد من قوات الاحتلال، المعتقلون لدى جهاز المخابرات في رام الله، وتابعت المجموعة أن هناك عشرات القرارات بالإفراج عن معتقلين صادرة عن المحاكم، ولم تُنفذ.
اقرأ أيضًا: أجهزة السلطة.. الدور الذي ينتج الفرز
اقرأ أيضًا: الجيش والمستوطنون وفتيان التلال يتقاسمون الأدوار ضد الفلسطينيين
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا تُصر السلطة في رام الله على كبت الحريات وإجهاض المقاومة؟ هل هي لدواعٍ أمنية تشكل عليها وعلى مستقبلها خطرًا، أم هي لدواعٍ سياسية متعلقة بالاتفاق الأمني الذي كلفها بالإنابة لحماية وحراسة المستوطنين في شتى بقاع الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
لعل الجميع يعلم أن اتفاقية التعاون والتنسيق الأمني هي خدمة مجانية للاحتلال، وأن السلطة ترعاه بإخلاص، وإلا لَمَا أطال عمرها واستمرارها، لذا يأتي تغول السلطة على شعبها لتثبت للاحتلال شريكها الأمني أنها قادرة على أداء هذا الواجب على أكمل وجه، وكأن الأمر تبادل للأدوار، فما تعجز قوات الاحتلال عن تحقيقه ضد المقاومين، تقوم به السلطة بالوكالة، لأنها الأقرب للعب الدور المزدوج ذي الوجهين، إذ تدخل من الباب الخلفي بكل أجهزتها وبعباءة فتح إلى الواجهة تحت مسميات السيطرة والسيادة وحفظ الأمن وسيادة القانون... من مسميات وذرائع واهية، والهدف الحقيقي هو القضاء على المقاومة، أو بصريح العبارة اجتثاثها من جذورها إرضاء للاحتلال.
كم مرة أعلنت السلطة وقف العمل باتفاقية التنسيق الأمني ولم تفعل ذلك، وهي بذلك تخدع نفسها قبل شعبها، الذي أصبح متأكداً من فقدانها المصداقية وانعدامها الثقة، صحيح أن بقاء السلطة واستمرارها يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالتنسيق الأمني، بل إن رئيسها أعلنها على الملأ دون خجل أو وجل أنه مقدس، معنى هذا أن كل ما قيل عن نية السلطة بوقفه أو حتى مجرد التفكير في هذا الأمر غير صحيح، فلا تجرؤ للحظة واحدة التخلف عن المهام الموكلة لها، لأنها متورطة من مخمصها إلى أذنيها، لكن هذا لا يشفع لها عند شعبها البتة، الذي يكابر مرارة التنسيق الأمني وفرض سياسة الأمر الواقع بالخضوع الكامل للاحتلال، وقد وجد من المقاومة سبيلاً للخروج من القهر والظلم المفروض عليه لعقود طويلة من الجهتين.
دون مبالغة، أكثر اعتقالات الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة مخالفة للدستور الفلسطيني الأساسي بنسبة مئة في المئة، والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها السلطة، لأنها تأتي بدون مذكرات اعتقال من النيابة، وعلى خلفية حرية الرأي والتعبير والانتماء السياسي، وبذرائع غير واضحة تحت بند تلقي أموال من جهات غير مشروعة، فإذا كانت السلطة ترغب بفرض سيادة القانون، عليها احترام حقوق الإنسان في حرية التعبير والرأي والديمقراطية وحق الانتماء السياسي عملاً بالقانون ﺍﻷﺴﺎﺴﻲ الفلسطيني ﻟﻌﺎﻡ 1996، ﺍﻟـﺫﻱ ﺃﻗﺭﻩ ﺍﻟﻤﺠﻠﺱ التشريعي، إذ نصت ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 19 على الآتي: "ﻻ مساس بحرية ﺍﻟﺭﺃﻱ، ﻭﻟﻜل مواطن فلسطيني ﺍﻟﺤﻕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺭ ﻋﻥ رأيه ونشره بالقول ﺃﻭ الكتابة، ﺃﻭ ﻏﻴﺭ ﺫﻟﻙ من وسائل التعبير ﺃﻭ ﺍﻟﻔﻥ". وقد سبقها في هذا وثيقة إعلان الاستقلال التي عدت ﺍلاﻋﺘﻘﺎل ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ انتهاكاً لمبدأ التعددية ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻴﺔ، وحرية تشكيل ﺍﻷﺤـﺯﺍﺏ، ﺍﻟـﺫﻱ يعد من أهم مبادئ الديمقراطية، ونصت أيضاً ﻋﻠﻰ "ﺃﻥ ﺩﻭﻟﺔ فلسطين ﻫﻲ للفلسطينيين أينما كانوا، ﻓﻴﻬﺎ يطورون ﻫﻭﻴﺘﻬﻡ ﺍﻟﻭﻁﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ، ﻭﻴﺘﻤﺘﻌﻭﻥ باﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﺍﻟﻜﺎﻤﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ، وتصان ﻓﻴﻬﺎ معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، ﻓـﻲ ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ حرية ﺍﻟﺭﺃﻱ، وحرية تكوين الأحزاب، والعدالة الديمقراطية ﺍﻟﻨﻴﺎﺒﻴﺔ وحق الانتخاب".
في الحقيقة، إن السلطة تلجأ إلى سياسة الاعتقالات وانتهاك حقوق الإنسان، كمحاولة لإرجاع هيبتها وسيطرتها، التي فقدتها في أغلب مدن وقرى الضفة المنتفضة الآن، وتعتبرها ملاذاً للهروب من أزماتها، خاصة أنها تواجه تحديات كبيرة، مثل انتهاء شرعيتها، والفراغ الدستوري والقضائي والتشريعي، بالإضافة إلى ذلك فشل برنامجها السياسي والاقتصادي، وإلغاء الانتخابات، والأزمة المالية، وتعتقد أن القمع يمكن أن يعوض عن الوضع الذي تعيش فيه، هذا ما يجعلها تتخبط وتمعن في غيها وفي القمع كطريق لحل الإشكالات والتحديات، الأمر الذي يفاقم الموقف بدلًا من حله، يبدو أن السلطة لم تتعلم درسها الأول من استخدام القوة ضد نزار بنات، مستغلة بذلك تغييب المؤسسات التي تردعها، إذ تُغيب المجلس التشريعي، ولا يوجد مجلس وطني، ولا فاعلية لمنظمة التحرير، ولا قضاء، ولا معارضة، ولا منظمات، ولا رقابة دولية لحقوق الإنسان المواجهة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
العجيب أن دعوة السلطة إلى عقد حوار للأمناء الفصائل نهاية هذا، الشهر تتزامن مع الاعتقالات السياسية ومواصلة التنسيق الأمني، فهي بمثابة الخنجر المسموم في ظهر المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني الممتد منذ عام 2007، بما يبدد الآمال بانفراجة قريبة على صعيد تحقيق المصالحة، فلا يعقل أن يتم تحقيق المصالحة في ظل الاعتقالات السياسية، لأن هذا يرجعنا لبدايات الانقسام منذ أكثر من خمسة عشر عاماً إلى الوراء، مع أنه تم التأكيد في لقاء أمناء الفصائل السابق على إنهاء التنسيق الأمني، إلا أن السلطة لم تلتزم بما وعدت، وواصلت الاعتقالات إلى هذا اليوم، فإذا غيب عباس المؤسسات الرسمية (التشريعي والقضاء ومنظمة التحرير)، فلا بد من التدخل المباشر من الفصائل الفلسطينية بشكل خاص، وتدخل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية بشكل عام لمنع مجزرة الاعتقالات السياسية.