ربما هي سلسلة اللقاءات الدولية التي أشارك بها للمرة الثلاثين، وسلسلة المحاضرات التاسعة في بريطانيا تحديدا التي تأخذ حصة الأسد في تلك اللقاءات، وذلك لأن حملة التضامن مع الفلسطينيين هناك تعتبر الأقوى والأنشط عالميا. ومرة تلو المرة، نحاول توسيع خطاب التضامن مع الفلسطينيين، لكي يتعدى مناهضة الاحتلال والحصار، أي "إسرائيل السيئة"، ليناقش مفهوم "إسرائيل الجيدة" التي تحاول (إسرائيل) إقناع العالم به. هل هنالك حقا "إسرائيل جيدة"، هل "الحلم الصهيوني" بشروطه المثالية، ومن دون أن يتعرض لمقاومة الضحية، أو لأي معارضة عالمية، يؤسس لحياة طبيعية وإنسانية؟
لا تستنبط الإجابة عن السؤال من واقع الصراع، بل من واقع الدولة، أي من الممارسات الروتينية للمشروع الصهيوني، وليس فقط من جرائمه المدوّية. والروتين الأساسي الذي أنتجه هذا المشروع هو الدولة العبرية نفسها، مؤسساتها، منظومتها القانونية، والقيم التي تنتجها وتربي عليها أجيالها يوميا. هذا الروتين هو ما يجسّد "الحلم الصهيوني"، وهو الذي ينتج انتهاكا تلو انتهاك، وجريمةً تلو جريمة.
قد يكون هذا هو الادعاء الأساسي الذي نطرحه أمام حركات التضامن الدولية، وفيه نؤكد أن المشكلة هي في الحلم (الدولة اليهودية)، وأن الجرائم التي ترتكبها هذه الدولة، هي نفسها أدوات تعريفها نفسها دولة يهودية، وأنها لا تستطيع أن تكون موجودة حتى ضمن روتينها اليومي الأساسي من دون عمليات تطهير واقتلاع وتصفية مادية ورمزية للوجود الفلسطيني، أي أن الجرائم ليست خارجةً عن الروتين الإسرائيلي، بل هي ما يشكل هذا الروتين داخل النظام نفسه، مترجمةً مخططات الاقتلاع والتصفية والتطهير إلى أدوات قانونية، وإلى نظم إدارة محلية.
بالتالي، لا يمكن الحديث عن الحل، بالاكتفاء بـ"دولة فلسطينية إلى جانب دولة (إسرائيل)"، الشعار الذي ما زالت تحمله حتى قوى سياسية مركزية لدينا في الداخل الفلسطيني. ولا يستطيع من يريد محاربة الجرائم الإسرائيلية أن يكتفي بإخراج (إسرائيل) من الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، بل عليه أن يخرج الصهيونية من النظام القانوني والسياسي للدولة، لأن مخططات الاقتلاع والتهجير والتصفية ناظمة لعلاقة إسرائيل مع الوجود الفلسطيني بكل أشكاله، ولم تكن المواطنة يوما نظاما حاميا للفلسطينيين من الصهيونية ومخططاتها، بل كانت دائما من أدوات سيطرتها وتمرير مخططاتها علينا.
أما الأهمية "الدبلوماسية" لهذا الادعاء، بالإضافة إلى أهميته السياسية، فهو أنه يفرغ خطاب الدفاع الإسرائيلي أمام الأوروبيين، القائم على انفصام (إسرائيل)، فهناك (إسرائيل) الجيدة/ الحقيقية التي لو تركها العالم وشأنها لأثبتت تفوقها الأخلاقي، وهناك (إسرائيل) المجرورة للحرب، التي تضطر ربما لارتكاب انتهاكات غير مقصودة أو اضطرارية، دفاعا عن النفس ليس إلا.
أهمية الادعاء أن التصفية والاقتلاع والتطهير جرائم قائمة في الروتين الإسرائيلي، وفي لب المشروع الصهيوني، أنه يعرّي (إسرائيل)، ويسقط ادعاء التفوق الأخلاقي و"الشرعية" التي تحاول (إسرائيل) الاعتماد عليها، فإذا كانت (إسرائيل) تخرس العالم بادعاءات "الإرهاب الإسلامي" في غزة، أو "الدفاع عن النفس الديمقراطية" في الضفة الغربية، فبماذا ستجيب إذا ما سئلت عن أسباب سن قانون منع العرب من الإقامة في أكثر من 500 بلدة جماهيرية، أو قانون تمييز البلدات اليهودية في الميزانيات، أو قانون/ مخطط برافر، أو قانون الجنسية، أو قانون سحب التمثيل البرلماني، أو قانون منع ذكرى النكبة، أو قانون خفض صوت الأذان، أو قانون تقييد مشاركة الأحزاب السياسية، أو قانون رفع نسبة الحسم، بماذا ستجيب (إسرائيل) على قوانين التصفية المادية والسياسية والرمزية تلك؟ خصوصا أن إجابتها التقليدية: "الدفاع عن النفس"، لن تصمد هنا؟ بماذا ستجيب إذا سقط دفاع، ("قليل من السواد الذي أضطر له"، وبعض الانحرافات السلوكية في الضفة وغزة) شرعي، لكي يحمي "كثيرا من البياض الذي هو هدفي الحقيقي"، (إسرائيل) الدولة الديمقراطية راعية قيم الغرب الديمقراطي؟
ماذا سيحصل إذا كشفنا أن البياض الذي تختاره (إسرائيل)، مفتخرة وبملء حريتها، هو ليس أقل حلكةً من السواد الذي تلجأ إليه اضطرارا في الضفة وغزة؟ ماذا سيحصل لو كشفنا أن الحلم النقي الواسع الذي تعيشه (إسرائيل)، داخل حدود ما تسيطر عليه تماما، هو ليس أقل خطورة من الكابوس المزعج الذي تعيشه "رغما عنها" في الضفة وغزة؟
وهذا بالضبط ما تخافه (إسرائيل): أن يكتشف العالم أن "الفكرة المثالية" (الدولة اليهودية) تحمل من الجرائم ما تحاسب عليه ليس أقل من جرائم الحرب التي ترتكبها "اضطرارا"، بسبب أن الآخرين لم يفهموا بعد مدى نقاء ما تريده (إسرائيل) وأخلاقيته. وأن يكتشف العالم أن المشكلة ليست في "الجرائم" المدوية فقط، بل في "الروتين اليومي" أيضا. المشكلة والعطب الأساسي ليست فقط في القصف، ولا في الحصار الذين سيتوقفان إذا ما استسلم الفلسطيني، وليست في سرقة الأراضي التي ستتوقف إذا ما وقع الفلسطيني عن التنازل عن أرضه طوعا، بل المشكلة فيما تريده (إسرائيل) حتى لو لم تقاومها، المشكلة في قوانين وثقافة ومنظومة فكرية، ترى في مجرد حضورك، (والحضور دائما قوي وصاخب، أو على الأقل واضح، وإلا شابه الموت) المادي والرمزي ما يضاهي الإرهاب.
وربما بسبب خوف (إسرائيل) من هذا الفهم، يضطر اللوبي الصهيوني إلى إحكام سيطرته لمجاراة التضامن المتزايد مع الفلسطينيين، النابع ليس فقط من بشاعة الجرائم الإسرائيلية، بل النابع من فهمٍ أعمق لمفهوم الدولة العبرية نفسها.
تتطلب هذه المواجهة مع طبيعة الدولة العبرية أن يقوم الأوروبيون، أولا، بتحرير أنفسهم هم من قمع وابتزاز متواصليْن، يتعرّضون لهما باستمرار، وبنجاحاتٍ لا يستطيعون إغفالها، ليتوصلوا إلى التحكم بتفاصيل المشهد السياسي الذي يعيشونه. ليس الفلسطينيون فحسب هم من يفقدون السيطرة على واقعهم، بل البريطانيون كذلك، أو بشكل أدق، كل من يريد منهم أن يعبر عن آرائه بشكل حر في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وهؤلاء على الرغم من قلتهم، وهم في تزايد مستمر، إلا أن تبرمهم من عدم قدرتهم من التعبير عن آرائهم بشكل كافٍ في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يؤشر إلى شعورهم بفقدان السيطرة أو بقلة الحيلة، فأن تتحكم سفارة ولوبي بحرية تعبير لآلاف النشطاء في دولة ما، هو مشهد غير روتيني ومدعاة للاستغراب، ومن ثم للاستياء والغضب.
ربما الغضب الذي يثيره ما يصفه عشرات من هؤلاء النشطاء، لما يعانونه من سيطرة لوبي أجنبي عليهم، أكبر من الغضب الذي يثيره انتهاك حرية الفلسطيني وكرامته من المشروع الصهيوني، ليس لأن معاناة الأخير أقل، فمعاناة الفلسطيني أعمق بما لا يقبل المقارنة، لكن بسبب أن نجاح الصهيونية في قمع ذلك البريطاني يزيد من ثقتها وراحتها في قمع الفلسطيني، فهل تنجح هناك، وتفشل معنا؟ نحن الذين تتحكّم في لقمة عيشنا والطريق إلى ما بقي من زرعنا، ومصدر رزقنا ومدرسة أولادنا ووعينا وحرية حركتنا وكمية المياه التي نستعملها وجودتها، وساعات الضوء وزرقة البحر في غزة، ولون أسماكه الملوثة.
والجواب: نعم، قد تنجح (إسرائيل) في قمع حرية تعبير المتضامنين من شعوب قوية سيادية، وتفشل مع الضحية، لأنها سيطرت على كل وسائل حياته المادية والرمزية، فأبقت له حدودا ضيقة جدا من الخسارة. القوة أحيانا هي في ضعفك، في تلك الحدود الضيقة التي إذا خسرت، فلن تخسر إلا ضيقها.
في السنتين السابقتين تحديدا، أمسى البريطانيون يسمعون استياءهم وضيقهم، بل وخوفهم من اللوبي الصهيوني، والأهم من نجاحاته في إسكات الصوت الحر فيهم، أكثر من أي فترة مضت، فقد أعاد اللوبي الصهيوني تكثيف حملاته وعلاقاته ووسائل ضغوطه، وهذه المرة بتنسيق جارٍ، وليس استراتيجياً فقط مع وزارة الخارجية الإسرائيلية والسفير الإسرائيلي في لندن الذي يشهد له الجميع باستعمال وسائل ترهيب سياسي لم يسبق لأي سفير استعمالها، على الرغم من أن القانون البريطاني (وغيره) لا يجيز أن يتلقى أي لوبي محلي تعليماتٍ وتوجيهاتٍ، أو تمويل من أي سفارة من السفارات الأجنبية في البلدان التي يعمل فيها، كون ذلك يعد تدخلا في الشؤون الداخلية للدولة، الأمر الذي تحظره أعراف الدبلوماسية الدولية وقواعدها.
وقد أوضح تحقيق أجرته قناة الجزيرة وأذاعته كيف تغلغل اللوبي الصهيوني، واخترق ليس فقط سراديب السياسة البريطانية، بل أيضا سراديب الحياة الشخصية لمسؤولين بريطانيين، ووصل به الحد إلى محاولات تدبير فضائح لأحد وزراء حكومة المحافظين، عقابا له على موقفه الرافض الاستيطان. أما ما يشير إلى قوة اللوبي الصهيوني والسفارة الإسرائيلية التي تعمل لوبيا ضد الدولة المضيفة، فهو ما يتعدى إمكانية إحاكة هذه المؤامرات، والعلاقات الفاسدة مع كبار الموظفين البريطانيين، إلى حقيقة أن اكتشاف هذه الدسائس والمؤامرات لم يعقبها أي عقاب، أو تصرف ملائم، وفق معايير الدبلوماسية المتعارف عليها.
وقد تمثل أوج نجاحات اللوبي الصهيوني في نجاحه في أن تتبنّى الحكومة البريطانية التعريف الجديد، والذي يعرف أي نقد "غير تقليدي" يوجه إلى (إسرائيل) أنه "لا سامية"، ويعتبر ذلك تغييرا جديدا لا نستخفّ بأبعاده. جاء ذلك التغيير في نهاية عام 2016، في تعهد رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، بإصدار قرار حكومي بتبني تعريف بلوره أخيرا "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة/ الهولوكوست"، ( IHRA) وجاء فيه أن "اللاسامية يمكن أن تشمل انتقادات ضد (إسرائيل) كدولة يهودية"، ما يعني أن كل من سيجرؤ على انتقاد إسرائيل سيعرّض نفسه "لخطر" وصفه باللاسامية.
ولم يقتصر نجاح اللوبي الصهيوني في جعل تيريزا ماي تتبنى هذا التعريف، بل جاءت الضربة الكبيرة من رئيس حزب العمال المعارض، جيرمي كوربين، اليساري المعروف بدعمه غير المسبوق في الساحة السياسية البريطانية الرسمية لحقوق الفلسطينيين، ووعيه التام بجوهر المشروع الصهيوني الذي وافق هو أيضا على تبني هذا التعريف الجديد للاسامية.
وهكذا، بدا وكأن اللوبي الصهيوني في بريطانيا استبق "فوائد" ما يمكن أن يجنيه الفلسطينيون من انتخاب "صديقهم" كوربين رئيسا لحزب العمال، بأن أحدث تقييداتٍ جديدة في المشهد السياسي البريطاني، تجعل التعريف الصهيوني للاسامية المتحكّم الأكبر في حدود المسموح والممنوع المتعلقين بدعم الفلسطينيين ومناهضة الاستعمار والاستيطان والأبارتهايد والقمع الإسرائيلي في المشهد السياسي البريطاني. ما قد يشير إلى أن دعم الصهيونية هو شرط حرية التعبير في بريطانيا نفسها. (هنالك إجراءات وقوانين مماثلة أقرت أخيرا في دول أوروبية أخرى، منها فرنسا وإسبانيا)، في عملية مكارثية بامتياز، تضع كل من ينتقد إسرائيل في قائمة سوداء، وتجعله عرضة ليس فقط للنقد، ولفقدان عمله ضمن عملية "تسويد وجه" متواصلة، بل لأنواع عديدة من المحاكمات، ليس أقل.
وقد كشف العشرات من أعضاء حزب العمال الناشطين عن حقيقة "تجميد عضويتهم" في حزب العمل لأشهر، بعد أن قدّم اللوبي الصهيوني شكاوى ضدهم، تتهم بـ"اللاسامية". ولا يغفل عنا أن عملية إقصاء آلاف من ناشطي حزب العمل لا تمثل مساً شخصياً لهؤلاء فحسب، بل إنها تعكس محاولات تلاعب اللوبي الصهيوني بمجريات النفوذ الداخلي في حزب العمال، المعروف بدعم كوادره مواقف كوربين، اليسارية والداعمة للفلسطينيين، لكن ليس بدعم الهيئات الرسمية في الحزب، وأصحاب المناصب العليا فيه، فهؤلاء معروفون بعدائهم كوربين، ومحاربتهم نفوذه من دون هوادة. الأمر الذي يشير إلى بعض آليات اللوبي الصهيوني في محاربة كوربين، وفي التأثير على الانتخابات الداخلية للأحزاب البريطانية.
هذه التطورات الجديدة، هي ما تجعلنا نؤكد أن هنالك دوافع لتضامن البريطانيين مع الفلسطينيين تتعدّى دعمهم لعدالة قضيتهم، فهم عمليا يتضامنون أيضا مع أنفسهم ضد محاولات الترهيب السياسي للوبي الصهيوني، مع حقهم في التفكير والتعبير والتصريح والنشاط بحرية في بلدهم، هم يتضامنون مع قيمة وممارسة اسمها "الحرية"، "السيادة" على الذات على الأقل.
وتتعالى في بريطانيا نفسها، في السنتين الأخيرتين، الأصوات التي تنتقد اللوبي الصهيوني، ليس من باب الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، بل من باب الدفاع عن حقوق البريطانيين، فقد أكدت عرائض وقعها مائتا محام وأكاديمي أن تقييدات السياسة البريطانية ضد حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل، بالإضافة إلى تبني تلك الحكومة التعريف الصهيوني للاسامية، يعد انتهاكا لحقوق الإنسان في بريطانيا.
ولا يتوقف قمع المواطن البريطاني من جهة غريبة في دولته على قمع حرية التعبير، إذ يهدّد اللوبي الصهيوني في جميع الدول الأوروبية أصحاب القاعات الذين يؤجرون قاعاتهم لمحاضرات أو ندوات لحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني. أما المخاوف الأخرى التي تواجه البريطانيين، وتجعلهم يرضخون لضغوط اللوبي الصهيوني، فتتعلق بالخشية من فقدان مصادر تمويل، أو تشويه سمعة من وسائل إعلام وشبكات تواصل اجتماعي.
على الرغم من ذلك كله، إذا كانت القضية الفلسطينية قد خسرت من حضورها السياسي العالمي، جراء تداعيات الثورات العربية، وجراء تصفيتها قضية تحرّر، وتعامل السلطة الوطنية معها قضية دبلوماسية، إلا أنها لم تخسر حضورها الأخلاقي عالميا، وما زالت رمزا للعدالة ولمحاربة الهيمنة، وما زال الفلسطيني لا يحتاج مجهودا كبيرا لكي يقنع أي أوروبي بعدالة قضيته، وما زال اللوبي الصهيوني يضطر لمضاعفة جهوده وأمواله وإرهابه، لكي يجاري الدعم (الشعبي) الذي يناله الفلسطيني فطريا، ومن دون مجهود كبير. لكن ذلك يتطلب منا تركيز جهودنا، والتأكيد على أن تعريف الدولة اليهودية نفسها، ومبادئها وقوانينها، يلغي أي إمكانية لوجود "إسرائيل البريئة"، وأن ممارسات إسرائيل اليومية المتمثلة عبر نظامها القانوني والسياسي والتعليمي، هي ما عليه أن يخضع للمكاشفة والمحاسبة الدولية، وليس جرائمها في الضفة الغربية وقطاع غزة وحسب، فالأول يحمل من الجرائم ليس أقل مما يحمله الثاني. الأمر الثاني الذي علينا التشديد عليه هو مدى تحول الصهيونية دوليا إلى حركة معادية للحريات في العالم.