من أهم المصطلحات التي استخدمها الإسرائيليون في ترويج فكرهم ورأيهم والولوج إلى عمق الآخر بكل سهولة ويسر، هي مصطلح "التطبيع"؛ فهو من حيث المبنى لفظٌ رقيقٌ ورشيقٌ وأنيقٌ، يُعجب به كل من سمعه، ويظن به خير الظنون، لكنه من حيث المعنى فهو من المصطلحات التي ظاهرها فيها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، والتي ترتدي خمسين قناعًا وترقص على خمسين حبلًا.
إن حسن استخدام المصطلحات عاد بالفوائد الجمة على (إسرائيل)، حيث نجح قادة الاحتلال في تحويل المزاج النفسي الرسمي وبعض الشعبي العربي تجاه (إسرائيل) التي جارت علينا إلى دولة جارةٍ لنا وصديقة يجب التعايش معها، فكلنا يعلم أن القادة العرب نجحوا عام 1964 في قمة الخرطوم بتسجيل ثلاثة لاءات نظيفة في سجل البطولة والرجولة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه، وانتجت فكرة أن كل من يفكر أو يسعى للخروج عن (لا صلح _لا اعتراف _لا تفاوض فهو باعتراف الجميع خائن)، وقد لاقت هذه اللاءات إعجاب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، فصفقت لها لأنها منسجمة مع مزاجها تجاه (إسرائيل)، وقد استمر المزاج الشعبي والرسمي على هذا المنوال حتى وصل بنا قطار التاريخ الى محطة (كامب ديفيد) حيث اتفاقية "التسوية" بين (إسرائيل) ومصر التي سعت الى تغيير المزاج العربي من (لا صلح _لا اعتراف _لا تفاوض) إلى فكرة أن (إسرائيل) جارة وصديقة ويجب ان نعيش معها بسلام وأمان حتى نقي الاجيال اللاحقة من حرارة الحروب.
لم ينسجم المزاج العربي الرسمي والشعبي مع توجهات مصر السادات فقطاعها العرب حتى حين، ورويدًا رويدًا بدأ سحر اللاءات الثلاثة يخف ولم يبق على عهدها الا القليل، بينما الكثيرون الذين نظروا بأن الخروج عن اللاءات الثلاثة "خيانة" صاروا ينظرون له على أنه "ضرورة"، بعدها مصر دخلت منظمة الفلسطينية والأردن على خط التقارب بشكل علني، فعقدوا اتفاقيات "تسوية" خدمت (إسرائيل) بالدرجة الأولى وحصل العرب على صفر كبير، أما باقي الأنظمة حتى وإن لم يوقعوا على اتفاقيات سلام بشكل علنيٍ أو رسميٍ، فإن موقفهم من (إسرائيل) لم يبق على حاله كما كان، خاصة بعدما رأوا أن بعض الفلسطينيين تقاربوا مع (إسرائيل)، وكأن لسان حالهم يقول (لن نكون ملكيين أكثر من الملك).
وبلمحة سريعة عن التغيرات الرسمية العربية تجاه الدولة العبرية ونجاح أساليب (إسرائيل) في استقطاب الأنظمة من خلال التطبيع سنجد ان بعض الزعماء العرب زاروا (إسرائيل) سرًا، والتقوا بقيادات إسرائيلية في محافل دولية، وفتحوا حدود بلادهم لقادة صهاينة أجرموا في حق العرب للمشاركة في مؤتمرات، وفتحوا مكاتب اقتصادية، ولقاء وزير خارجية الإمارات سرًا مع نتنياهو في بريطانيا، وما دعا إليه العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عن نيته التطبيع مع (إسرائيل) علنًا وشجبه للمقاطعة العربية مع العدو الإسرائيلي، وما دعا له وزير الاستثمار السوداني مبارك الفاضل لضرورة إقامة علاقات مع (إسرائيل)، والنماذج تطول.
لم يقتصر تحول النظرة لـ(إسرائيل) على المستوى الرسمي فقط بل امتد ليشمل قطاعات من المجتمع العربي الشعبي (الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية والفنية والرياضية...) حيث نجد بعض القطاعات العربية تشارك مع وفود إسرائيلية في مهرجانات أو ندوات أو مؤتمرات تحت أسماء الحوار بين الأديان والتعايش السلمي.
إن المتأمل في رغبة الزعامات العربية للتطبيع مع (إسرائيل) يجد أنهم يرغبون بالحفاظ على عروشهم من خلال كسب ودّ أمريكا، وهذا الكسب لا يتم إلا من خلال رضا (إسرائيل) باعتبارها الفتاة المدللة في المنطقة، فبرغم من أن أول مادة في دستور كل دولة عربية تقول أن (الشعب هو مصدر السلطات) إلا أن الشعب غائبٌ ومغيبٌ عن آليات اتخاذ القرارات، وصدق الذي قال: (إن إسرائيل وليس الشعب هي مصدر السلطات).