ولا أزال أؤكد أن أي مؤسسة إنسانية لا تؤدي دورها الإنساني المنوط بها لا طائل من بقائها، وهذا ينسجم مع موقفنا من الحصار غير الإنساني وغير القانوني وغير الأخلاقي على غزة، فلا يجوز أن نقف متفرجين على معاناة ما يقرب من مليوني إنسان، يعانون آثار حصار إجرامي، يقتل المرضى ويزيد من فاقة وعوز الفقراء، ويرفع من نسب العاطلين عن العمل إلى مستويات غير مسبوقة بحسب المعايير الدولية.
ورسخت (إنتربال) التي أسست عام 1994م هويتها الإنسانية البحتة بمنجزاتها على الأرض، فقد أنجزت العديد من المشاريع التنموية والإغاثية التي استفادت منها شرائح المجتمع الفلسطيني كافة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى دول الشتات، وعملت على تركيز دعمها للقطاع الصحي في غزة باشتراء الأدوية المفقودة نتيجة الحصار، واشتراء سيارات الإسعاف، وتوفير كميات كافية من حليب الأطفال الدوائي، والكراسي الكهربائية المتحركة لاستخدام ذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها من أشكال الدعم، فقدر حجم الدعم الذي قدمه الصندوق خلال مدة الحصار بأكثر من 10 ملايين دولار .
وليست (إنتربال) استثناءً؛ فمنظمات عدة خاضت معارك قانونية كان يقف وراءها كيان الاحتلال ومؤيدوه ورجالاته في دول أوروبية، وإن كانت معركتها أطولها مدة زمنية وأشدها ضراوة في السجال، فقد عانت العديد من المؤسسات الإنسانية حالة من الاستنزاف المالي، والإرباك الإداري، نتيجة الدعاوى القضائية بحقها، إضافة إلى الارتدادات السلبية لهذه الدعاوى على عملها، فعلى سبيل المثال لا الحصر: يمكن الإشارة إلى جمعية (وور أون وانت الخيرية War On Want )، التي أوقفت الحكومة البريطانية تمويلها بحجة انخراطها في أنشطة سياسية ضد الكيان العبري، بعدما رعت الجمعية افتتاح أسبوع "عنصرية (إسرائيل)" في شهر شباط (فبراير) 2016م في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية إحدى جامعات لندن، الذي اتهم أحد المتحدثين فيه الكيان بسرقة أعضاء من أجسام الفلسطينيين.
وواجهت منظمات إنسانية كـ"مؤسسة الأقصى الخيرية" في بلجيكا تحديات مماثلة، فقد انبرت للدفاع عن نفسها وعن العمل الخيري الموجه لدعم أبناء الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال، أمام المحاكم، وعانت نتيجة حملات التأليب والتشويه التي أدت بها إلى خوض معارك قضائية مع عدد من البنوك البلجيكية، التي مارست ضغوطًا عليها تمثلت في إغلاق حساباتها البنكية، والتضييق على تعاملاتها المالية.
وفي كندا تكافح منظمات خيرية إسلامية لإثبات براءتها من افتراءات دعم الإرهاب، فتخوض مؤسسة "صندوق الإغاثة الدولي - (عرفان) كندا" _على سبيل المثال_ معاركها القضائية، بعد تصنيف الحكومة الكندية لها منظمة غير خيرية عام 2011م، ثم إضافتها إلى قائمة المنظمات الإرهابية عام 2014م، الأمر الذي دفع المؤسسة إلى الوقوف بشجاعة للدفاع عن حقها في تلمس معاناة الفقراء والمحتاجين وتقديم يد العون لهم، وعن سلامة موقفها القانوني، وبطلان الشبهات التي تحيط بها نتيجة التأليب الصهيوني الأعمى عليها، إذ قدمت طلب حذفها من قائمة المنظمات الإرهابية للحكومة الكندية، لكن الطلب قوبل بالرفض في ديسمبر 2016م، فما كان من المؤسسة إلا أن لجأت إلى القضاء، واتباع الوسائل القانونية لاسترداد حقها الشرعي في ممارسة عملها الإنساني، ومزاولة أنشطتها في تقديم الدعم لمستحقيه من أيتام وفقراء ومرضى ... وغيرهم.
دوافع سياسية
وما جرى مع مؤسسة "الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية" في الولايات المتحدة الأمريكية يجسد سطوة البعد السياسي على العامل الإنساني والخيري في أشد صورها وضوحًا، ومحاولة لتشويه الوعي الإنساني القائم على ضرورة ترسيخ مبادئ هذا الوعي وتعظيمها، لمصلحة غايات خبيثة تسعى إلى قلب الحقائق، وإزاحة بوصلة العمل الخيري في اتجاه معاكس نحو تبرير صنائع قوى الشر في العالم، وتوظيف الوسائل والأدوات كافة حتى القانون، دون اكتراث بضياع الحقوق، وتكريس لمفردات القهر والظلم والطغيان.
فالمؤسسة التي قضت سنوات طويلة منذ تأسيسها في تقديم المساعدة والدعم للأسر الفقيرة والمتضررة من سياسات الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واللاجئين في دول الشتات لم تخرج عن السياقات القانونية في عملها الإنساني، لكن التأليب الصهيوني المحموم منذ سنوات طوال نجح أخيرًا في عهد الرئيس جورج بوش، بعد زيارة رئيس وزراء كيان الاحتلال آنذاك آرئيل شارون التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر 2001م؛ في توجيه وابل سهام الشر لينهي قصة مؤسسة اعتمدت النزاهة والشفافية أساسًا لعملها، بعدما أصدرت الحكومة الأمريكية قرارًا بإغلاق المؤسسة في العام نفسه، إلى جانب عدد من المؤسسات الخيرية الإسلامية في الولايات المتحدة حينها، لتبدأ عملية ملاحقة العاملين في المؤسسة قضائيًّا.
وتجاوزت استتباعات محاكمة مؤسسي "الأرض المقدسة" الخمسة حدود ادعاءات المخالفات القانونية، لتظهر كمعاقبة للجاليات العربية والمسلمة التي تؤمن بحق أيتام وأرامل وفقراء الشعب الفلسطيني في الحياة، لاسيما أن الملاحقات الأمنية تعدت كل الخطوط الحمراء لتطال متبرعين للمؤسسة، وأظهرت المحاكمة حجم انقياد الإدارة الأمريكية لرغبات قادة الاحتلال الإسرائيلي إلى درجة يمكن معها الذهاب بعيدًا في التلفيق والافتراء، وتسخير مؤسسة القضاء الأمريكي لخدمة ساسة الاحتلال، في دولة تتغنى بقوة ومتانة وحيادية مؤسسات القانون فيها، وسيادة مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
وقد كانت أحداث 11 سبتمبر 2001م الفرصة المواتية للوبي الصهيوني، وجماعات الضغط السياسي اليميني في الولايات المتحدة، وكيان الاحتلال الإسرائيلي، للانقضاض على مؤسسات العمل الإنساني والاجتماعي الإسلامية، والنظر إليها من منظور أمني، بوصمها بتهم دعم الإرهاب، ما سهّل تقويض تجربة مؤسسة "الأرض المقدسة" التي سجّلت نجاحات باهرة في العمل الخيري الإسلامي المؤسسي في الغرب، وقد حدث ذلك كله مع تناسي إسهامات هذه المؤسسات في رسم الصورة الحضارية للولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج.
وللمفارقة المؤلمة إن القضاء لم يدن المؤسسة بسبب القوانين الأمريكية المستحدثة، التي باتت تجرم كل من يقدم التبرع أو المساعدة (تعده عملًا غير قانوني) لأيّ شخص أو مؤسسة ورد اسمه في قوائم الإرهابيين التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية، بل جرمت المؤسسة بسبب "التآمر بدعم لجان الزكاة التي أصرت النيابة على تبعيتها لحركة حماس"، في حين تقدم (يو أس إيد USAID ) الأمريكية الدعم المالي للجان الزكاة المذكورة نفسها، بل استمرت في تقديم دعمها حتى بعد إغلاق مؤسسة الأرض المقدسة، دون أن توجه أية اتهامات تذكر إلى المؤسسة الأمريكية الحكومية المعروفة.
ومع ذلك لم تتضمن لائحة الاتهام ضد مؤسسة الأرض المقدسة (HLF) أيّ تهم بتقديم المال لحماس، أو توفير المال لأغراض التسليح، أو الانخراط في العنف، ولم يذكر في لائحة الاتهام مطلقًا أنّ الأموال التي تتلقّاها لجان الزكاة من مؤسسة الأرض المقدسة قد أسيء استخدامها أو تسريبها لدعم أعمال العنف، فضلًا على أنّه لا توجد أيّ من لجان الزكاة التي في لائحة الاتهام على أيّ قائمة من قوائم الإرهاب المعروفة لدى أيّة وكالة من الوكالات الأمريكية.
ولم ينكر المدعون العامون الأمريكيون خلال التحقيقات أن الأموال التي جمعتها مؤسسة الأرض المقدسة قد أنفقتها كلها من أجل تقديم المساعدات الغذائية والملابس للأطفال الفلسطينيين، وقد أكد ذلك في قاعة المحكمة، لكن مجريات القضية مع ذلك لم تكن تسير لمصلحة أعضاء المؤسسة الخمسة الذين حوكموا (شكري أبو بكر المدير التنفيذي، ومحمد المزين رئيس مجلس الإدارة، وغسان العشي الرئيس السابق لمجلس الأمناء، ومفيد عبد القادر، وعبد الرحمن عودة الممثل السابق للمؤسسة في نيوجرسي)، ما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الدافع وراء القضية سياسي بحت.
خروقات قانونية
وما يثير الدهشة والاستهجان خلال سير المحاكمات لأعضاء المؤسسة حتى إصدار الأحكام الجائرة بحقهم اعتراء هذه المحاكمات الكثير من الخروقات والتجاوزات القانونية، فقد بدأت محاكمة المتهمين يوم 23 تموز (يوليو) 2007م، وبعد شهرين من جلسات الاستماع و19 يومًا من مداولات هيئة المحلفين أعلن القاضي بطلان القضية، لأن هيئة المحلفين فشلت في التوصل بالإجماع إلى قرار بإدانة المتهمين، لتقرر الحكومة بعد ذلك إعادة فتح القضية بعدما تغير قاضي المحكمة وهيئة المحلفين، وأجرت هيئة الادعاء تعديلات رئيسة شملت استدعاء شهود جدد، وإحضار ما قالت: "إنه شواهد استولى عليها الجيش الإسرائيلي من مقار السلطة الفلسطينية، تشير إلى أن السلطة تعد المؤسسة الخيرية ممولًا رئيسًا لحركة حماس".
ووجهت هيئة المحلفين الاتهام في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008م إلى مسؤولي المؤسسة الخمسة، تتركز جميعها حول التآمر بتمويل ودعم منظمة إرهابية، لتصدر في نهاية الأمر محكمة أميركية في ولاية تكساس يوم 27 أيار (مايو) 2009م حكمها بسجن المدير التنفيذي للمؤسسة الخيرية شكري أبو بكر والأربعة المتهمين معه مددًا تتفاوت بين 15 و65 عامًا، وهي أحكام وصفها أحد المحامين الأمريكيين بأنها "الأكثر ظلمًا" خلال مدة عمله محاميًا جنائيًّا أمريكيًّا منذ نحو 30 عامًا.
تثبت الحرب الشعواء غير المتكافئة التي يشنها كيان الاحتلال على المؤسسات الخيرية الداعمة لأبناء الشعب الفلسطيني حالة التناقض "القيمي" التي يعانيها، ففي الوقت الذي يشجع فيه العمل الخيري ويدعم مؤسساته التي تستهدف مجتمع الاحتلال، حتى زاد عددها على 28 ألف جمعية ومؤسسة؛ إنه يحارب القيم الإنسانية التي تمثلها جمعيات أخرى تستهدف مجتمعًا غير مجتمعه، وفي ذلك ترسيخ لمفاهيم العنصرية لدى هذه الدولة المصطنعة، فالإنسان لديهم ليس كالإنسان الفلسطيني، أو أي إنسان آخر، والعمل الخيري "حلال لهم، وحرام علينا".
وبأسلوب سافر لا يتورع كيان الاحتلال عن اتخاذ ما يشاء من الإجراءات التعسفية، وممارسة ما يرغب بممارسته من الانتهاكات بحق المؤسسات الإنسانية، ولا يتوانى عن خرق القوانين في هذا الصدد بسبب اطمئنانه الكامل إلى أن خلفه قوى عظمى تسنده، وتستطيع بدعمها غير المحدود له قلب الموازين من حق إلى باطل.
لكن ساحات القضاء والقنوات القانونية تبقى وسيلة المؤسسات الإنسانية للدفاع عن نفسها، وإثبات حجتها، ولا سبيل لها سوى المضي في إظهار وتأكيد نزاهتها وشفافية عملها، ولا غنى عن الإيمان بسيادة القانون، وإن طال الطريق، وفي النهاية لابد للحقيقة والعدالة أن تنتصرا في وجه الزيف والظلم والتجبر، وإن العالم يعتريه دومًا التغير، ليتكرس في نهاية المطاف مبدأ أن لا أحد فوق القانون، حتى الكيان العبري.