فلسطين أون لاين

ألَّف 11 كتابًا ورواية داخل الأسر

بالصور عمار عابد يتذوق حلاوةَ الحرية بعد عقديْن وخطيبته تطوي 6 سنوات من ألم البعاد

...
الزميل يحيى اليعقوبي يحاور الأسير المحرر عمار عابد
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"سأَنتظره عشر سنوات"، دون تردد أعطت يقين مهدي عابد (25 عامًا) ردًا فوريًا بالموافقة على الارتباط بالأسير عمار محمود عابد (38 عامًا) حين تقدم لخطبتها وكان لا يزال في حكمه البالغ 20 عامًا ونصف العام نحو ست سنوات ونصف.

جهرت على الملأ أمام وفدَيْن من العائلتين في مشهد تجلَّى فيه التضحية والوفاء: "سأضحي بعمري وشبابي حتى أشعر أنّي قدمت شيئًا لفلسطين".

أعطى هذا الموقف خطيبها شحنة دبّت إليه الحياة، كانت أنيسه في عتمة السجن، وأحيت أدب السجون في روحه، فكتب لها مئات الرسائل خط لها حروف الحب والشوق على أوراق بيضاء.

بعد طول انتظار مزق قلبها الشوق والحنين تنسم عمار عابد الحرية قبل أيام، واستقبلته "يقين" في أول لقاء بعد ست سنوات من عقد القران وهي ترتدي ثوبًا تراثيًا مزّينًا بطَوق الياسمين، امتلأ البيت بالمهنئين وحبال الزينة، رفض الاحتلال كل محاولاتها زيارة خطيبها، لكنه لم يهدم يقينها بحتمية اللقاء وانقضاء المدة مهما طالت ليالي الشوق.

على جانبَي ممر طويل يوصلك لمنزله بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة امتلأت جدران الحائط بملصقات التهنئة وصوره، تتدلى من الأعلى حبال زينة ابتهاجًا بتذوقه الحرية، يلفتك عبارة مكتوبة على باب البيت: "عدتُ يا أمي بالرغم من قيد السجان"، بجانبها استقبلنا المحرر عمار في ساحةِ جهزت لاستقبال المهنئين يتوشح بالكوفية، يقيم حفلًا صاخبًا في قلبه الذي لم يتسع لاحتضان فرحته تلك. 

تغيرت الأجيال

"لم تتغير الحجارة، ربما ازدادت طوبة على طوبة واعتلى البناء، لكن الذي تغير الوجوه، فكبر الصغير وأصبَح الكبير مُسنًا، وولدت أجيال من الأطفال لا أعرفهم"، قالها وهو يتأمل بيته الذي تركه قبل أكثر من 20 عامًا، وزاد الآن طابقَين للأعلى، تقفز من قلبه عبارات فرح ترسم ملامحه في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين".

يستدير بنظراته نحو شقيقه أحمد (30 عامًا) الذي حضر حديثنا، يعلق على تغيّر سنه قائلًا: "أحمد تركته وهو بعمر تسع سنوات، الآن تجاوز الثلاثين، أذكر أنه زارني بالسجن بعد حرمان الاحتلال لنا من زيارة الأهل ما بين (2006-2012) وجدته يرافق أمي، وحينها لم أتعرف عليه".

في أثناء الزيارة، عرضت والدته صورة لشَقيقه سليمان الذي يصغره بثلاثة أعوام، وبالرغم من أنه لم يتعرف عليه أيضًا فتجاوز الحرج مع أمه بحيلة يتفق عليها الأسرى، يطل على الحدث من الذاكرة: "تدخل أحد الأسرى وسأل أمي: "عرفينا على الشباب اللي بالصورة يا حجة" فقالت له: "هذا أخوه سليمان" ثم شكَّت بالأمر وسألتني: "ليكون مش عارفه؟" فعدت من شرودي في أثناء محاولتي التعرف عليه بالتأمل بالصورة وأبديت عكس ذلك: "لالا، عارفه ونصف".

في 21 نوفمبر/ كانون الثاني 2002 وفي أثناء محاولة المحرر عابد السفر لأداء مناسك العمرة، اعتقلته قوات الاحتلال من معبر رفح وكانت آنذاك تتواجد عند المعبر لاعتقال المطلوبين والمقاومين، ونُقل للتحقيق بسجن عسقلان وحكم بالسجن 17 عامًا، أضيفت لها ثلاث سنوات ونصف عام 2014 بتهمة تهريب هواتف للسجن.

في ملامحه لا تجد سوى الفرحة، لكن في صوته ألف ألم متخفٍ بين نبراته، تستشعر بها عندما وصف تجربة الأسر: "لا تدري كيف مرّت لكنها مضت وانطوت كما تطوى السجلات وقضمت العمر (..) الحرية كمن كان من الأموات وأصبح من الأحياء، أو كالذي يحترق بالنار وصار يتلذذ بنعيم الجنة وأقصد هنا الحرية".

في سبيل عدم انفصاله عن الواقع دفع ثمنًا بإضافة ثلاث سنوات إلى حكمه، لكنه يجد ما يبرر هذه التضحية: "نحن نهرب الهواتف حتى لا ننفصل عن الواقع، ولا يكون غريبًا، فأي صورة من الخارج لشارع أو مشهد بالسوق أو مسجد يربطنا بهم، يعمل على إحياء مشاعرنا".

في السنوات التي ينقطع فيها الأسير عن الخارج يشعر بأنه في "عالم الأموات"، يمسكُ هاتفًا بطول إصبع اليد وبعرض أصبعين اختفى بين يديه حينما قبضها للداخل، يقول وهو يقلب الهاتف بين يديه: "في السجن يكون بلا غطاء خارجي كما تراه الآن فقط نستخدم اللوحة، ويصل ثمنه بالأسر نحو 10-15 ألف شيقل".

اقرأ أيضاً: تقرير محررون من غزة.. عائلاتهم تعيش فرحتي العيد الأول والإفراج

نحو 120 أسيرًا بالقسم يستعملون الهاتف المهرب وينتظر كل واحد خمسة أيام حتى يأتي دوره بالاتصال ومن يمسك بحوزته يدفع سنوات إضافية من عمره كما حدث معه، فيجري الاحتلال مداهمة يومية وأسبوعية وشهرية بحثًا عن الهواتف، لإدراكه قيمته لدى الأسرى، "لا يريد أن تتذكر أن هناك حياة خارجية من أجل قتل النفس والروح، إلى أن يصل لقتل الجسد ليَزُجك ليس في التراب بل بثلاجات الموتى"، يقول.

أسوأ ما في السجن

أسوأ ما في السجن بالنسبة إليه، فقدان العزيز والأخ والحبيب، إذ فقد عمار بعض أعمامه وعمَّته وجدَّتيه اللتين ربتاه ومنحتاه الحب والدفء والحنان، يملأ نظرته حزنٌ عميق يرافق صوته: "في أثناء الاستقبال قلت لعمي: تمنيت وجود أي شخص من جيل كبار السن، هذا الجيل الذي كان يعزني لم أجد أحدًا منهم".

العزل من أسوأ ما يمر على الأسير وهدفه "إفراغ الإنسان من روحه وقتله" بعزله في زنزانة بحجم فرشة البيت، لا يسمح له بالخروج للفورة، فيضطر الأسير للمشي أربع خطوات للأمام ومثلها للخلف، والقفز أو الركض بالمكان لتحريك الدم، يتعلق بما حفظه من قرآن وما اختزنته ذاكرته من مواقف، محاولًا وضع سدٍ أمام تسلل الطاقة السلبية إلى قلبه.

بالقسم نفسه بسجن نفحة، شهد على استشهاد الأسير سامي العمور، الذي كان خاطبًا لكن الموت وصل إليه قبل أن ينال الحرية، يحاول ابتلاع غصة حارقة وهو يكمل حديثه: "كان من فترة لأخرى تتدهور صحته، وفي كل مرة يعيده الاحتلال بذريعة عدم وجود شيء، وأمام ضغوط الأسرى أجرى له عملية جراحية، في آخر يوم له خرج وكان يعلم أنه لن يعود".

يشقُ القهر طريقًا بين قسماتِ وجهه وصوته: "أن تفقد أسيرًا يجلس معك بنفس الغرفة، على السرير نفسه ويَذوب ويتلاشى لحمه ويصبح هيكلًا ولا تستطيع فعل شيء فهذا من أسوأ ما يمر عليك".

شريك الروح

قبل ست سنوات ونصف، قرر الخطبة والبحث عن شريك يؤنس وحدته في "عالم المنسيين" وهي بمثابة "انتقال من الموت للحياة، بأن تجد من ينتظرك، وتشعر بقيمتك وأن هناك من يضحي لأجلك، وأن تضحيتك لم تذهب هدرًا".

في غرفة صغيرة تنعدم فيها الخصوصية يحاول الأسرى توفير جوٍ لكل منهما عندما يحدث خطيبته أو زوجته أو أمه، تعلو ملامحه ابتسامة ويمتزج صوته بالفخر: "كانوا يبتعدون قدر الإمكان، ويُحدثوا نوعًا من الإزعاج بينهم حتى لا يسمعوك، أو يخرجوا خارج الغرفة مع بقاء أحدهم في حالة انتباه خوفًا من المداهمة المفاجئة للسجانين".

لم تزر "يقين" خطيبها "عمار" إلا مرة واحدة عندما كان عمرها عشر سنوات تلتصق تفاصيلها بذاكرته: "كانت بالمرحلة الابتدائية، جاءت على اسم إحدى شقيقاتي بهدف التعرف على ظروف الأسر، ولليوم تذكر تفاصيل الزيارة وما تعرضت له من تفتيش".

منذ ست سنوات وكل شهرين يجدد الخطيبان طلب الحصول على زيارة، في البداية يوافق الاحتلال لكن في ليلة الزيارة يُبلغهما برفضها، يخرج القهر المدفون وراء قفصه الصدري واصفًا: "هذا تلاعب بالأعصاب من أجل قتل المعنويات، فيسبق الزيارة تحضيرات مني ومن خطيبتي التي تنزل للسوق وتشتري الملابس وهناك ملابس معينة يسمح بإدخالها للسجن، فنَستمر ثلاثة أيام في محاولة تهدئتها وإرضائها وإيقاف بكائِها، وبعد سنوات تأقلمت".

في كتاب يحمل اسم "انتظار الكروان" كتب عمار لخطيبته كل ما يجول في قلبه من مشاعر وشوق خطها لها على 200 صفحة، كان يجيب عن أسئلتها له في اتصالاتها الهاتفية المُهربة على ورقة تهرب أيضًا من داخل السجن، يستعد لطِباعتها في كتاب.

عن صبرها وتحملها وانتظارها له، لم يجد الكلمات التي تنصفها، فقال: "تحملت سنوات كالعلقم، لم تستجب لمحاولات التأثير عليها لفسخ الخطبة، هي جزء مما تقدمه المرأة الفلسطينية التي أفنت حياتها في سبيل الوطن".

و"انتظار الكروان" واحد من 11 كتابًا ورواية كتبها المحرر عمار عابد، وهو حاصل على بكالوريوس تاريخ من جامعة الأقصى، ودبلوم دعاة من الجامعة الإسلامية، من أبرز مؤلفاته، رواية "زاويرا" تتحدث عن السجن، و"المعمة" التي يروي فيها مرحلة التحقيق، وأزاهير من وصايا السابقين، و"كورونا" فرصة استغلال الوباء لتطوير الذكاء، و"محنة المحنة" لها علاقة بعادات الناس، وتحت "ضوء شمعة" يتحدث عن طقوس الكتابة بالسجن.

ليلة حريته كتب آخر ثلاث صفحات من كتاب "العام الأخير يوميات أسير" الذي وصلت عدد صفحاته 1200 ورقة، وبالعادة يعاني الأسرى كثيرًا في كتابة المؤلفات والروايات، فيضطرون لكتابة أكثر من نسخة حفاظًا على المادة المؤلفة في حال صادر الاحتلال إحدى نسخها.

ويقول المحرر عابد، إن هذا ما حدث واقعًا، فعندما ألَّف كتاب كورونا ونسخه أربع مرات، صادرت إدارة سجون الاحتلال ثلاث نسخ منه، في حين رأت النسخة الرابعة النور، وكذلك الحال في رواية "زاويرة" فكتبَ نسختين إحداهما صادرها الاحتلال، وتحررت الأخرى إلى العالم الخارجي.

fdc75f6c-0c0a-40de-b758-d37638b75a0e.jpg


25d92d16-b784-4e56-98b4-b11c3b7ebeee.jpg


d08eb000-eddc-4050-887b-dee5ed6ff44b.jpg