فيما مضى كانت هناك شريحة لا يستهان بها في فلسطين تعتقد أنه لا يمكن قهر (إسرائيل)، وأن كل حدث في فلسطين لا يكون إلا بتخطيط يهودي، ومن ذلك اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي هي من أعظم إنجازات الشعب الفلسطيني، إذ قالوا في حينه: إنها من تدبير اليهود وهم من حدد بدايتها ونهايتها لأسباب هم أعلم بها. تلك الشريحة تنتمي لجيل الهزائم والنكبات الذي شبّ في قمة الضعف العربي وعاصر أبطالًا من ورق و"زعماء" عرب لعبوا دور الأبطال والمخلّصين بالرغم من عدم تحقيقهم أي إنجاز أو انتصار في حياتهم، ولكن مع مرور الوقت لم يبقَ من شريحة الانهزاميين سوى القليل ممن توارثوا الفكر الانهزامي بسبب البطولات الذاتية التي أنجزها شعبنا الفلسطيني ومن ذلك الانتفاضات والهبات المتتالية لجماهير شعبنا، والانتصارات التي حققتها المقاومة سواء في الضفة وأشدها العمليات الاستشهادية أو في غزة التي أبهرت العالم بثباتها في وجه الحصار الظالم والتآمر الدولي وكذلك تحقيق انتصارات في الحروب التي خاضتها ضد الجيش الإسرائيلي الذي عجزت جيوش عديدة عن الوقوف أمامه.
في هذا الوقت هناك من يريد إعادة الروح الانهزامية لشعبنا في الوقت الذي يعيش فيه الكيان نهاية خريف عمره، إذ يقول أحد المحسوبين على المفكرين الفلسطينيين في مقال له نشره قبل أيام: إن كل ما يحدث في فلسطين هو مخطط إسرائيلي بمساعدة دولية والهدف منه التخلص من قيادات فلسطينية كبيرة في غزة والضفة كمقدمة لأزمة للسياسيين الذين يُجهزون لإبرام التسويات الكبيرة القادمة، إذ تخطط (إسرائيل) حسب زعمه لعمل كيانين فلسطينيين؛ سلطة متجددة لمنظمة التحرير في الضفة الغربية أساسها الأمن مقابل العمل والراتب، وسلطة إسلامية لحماس في قطاع غزة أساسها الأمن مقابل رفع الحصار.
أقول: إن ربط قضية فلسطين بما تفكر به دولة الاحتلال وبما قد تقبله حماس -ولن تقبله- وبما تريده المنظمة هو تفكير سطحي جدًّا جدًّا، فلسطين ليست غزة والضفة وفيها حماس ومنظمة التحرير فقط، فلسطين هي وطن وشعب في غزة والضفة ومناطق 48 والشتات أيضًا، قد يكون الأمر ممكنًا لو كان في غزة هنودٌ وفي الضفة سيريلانكيون ومناطق 48 فلاشا، فالمسألة أكثر تعقيدًا من هذا يا "باشا".
بما أن المقاومة هي الرقم الصعب في كل القضية فإنني أعتقد جازمًا أن المقاومة في قطاع غزة وعلى رأسها كتائب عز الدين القسام ترفض أن يفكر الفلسطيني بهذا الشكل، إذ إن رفع الحصار عن قطاع غزة سيُنجز وقريبًا جدًا بالقوة بإذن الله، المقاومة مستعدة لتقديم الكثير من التضحيات دون تقديم تنازلات، ولن تتخلى عن باقي فلسطين، وأقول فلسطين وليس أراضي السلطة الفلسطينية فقط، المقاومة لن تتخلى عن يافا وحيفا ولن تقبل بكيان في غزة، المقاومة تقبل بقيام دولة فلسطينية على المناطق المحتلة عام 1967 مع إزالة جميع المستوطنات كحلّ مرحلي وليس أبديّ وكذلك دون أي اعتراف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للمناطق المحتلة عام 1948، بعكس ما تنصّ عليه اتفاقية أوسلو التي تعطي المحتلَ شرعية كاملة على ثلاثة أرباع الوطن.
أما بخصوص الضفة الغربية ومنظمة التحرير فأعتقد أن المنظمة لديها مشاكل أكبر من توفير العمل والراتب لتأمين قيادتها واستمرار عملها، إذ تحتاج أولًا إلى إثبات تمثيلها للغالبية وهي ليست كذلك حسب آخر انتخابات، وتحتاج إلى توحيد صفها ووقف الخلافات داخلها، والأهم من كل ذلك أن المقاومة في الضفة لا تلتزم بالبرنامج السياسي السلمي للمنظمة، وكل التنظيمات المقاوِمة تعمل في الضفة الغربية وتلقى تأييدًا منقطع النظير من الشارع الفلسطيني، وهذا ما ظهر في السنوات الماضية أكثر وضوحًا في الأسابيع الأخيرة.
أما بالنسبة لدولة الاحتلال (إسرائيل) فهي أضعف من أن تنجح في استمرار فصل الضفة عن غزة لأن النيران تشتعل في قلبها، سواءً بالتشتت الداخلي الذي تعيشه أو بالتهديد المتوقع من الفلسطينيين الصامدين في المناطق المحتلة عام 48.