فلسطين أون لاين

تركهما طفلين وخرج ليجدهما شابين 

"احنا ولادك يابا"... عندما خذلت الذاكرة المحرر "شلوف" أمام نجلَيه لحظة التحرر

...
الزميل يحيى العيقوبي يحاور المحرر زامل شلوف (تصوير: ياسر فتحي)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

فُتحت بوابة الاحتلال الإسرائيلي على حاجز بيت حانون مع أول أيام شهر رمضان، تحرك زامل شلوف (44 عامًا) للأمام، مغادرًا حياة قاسية وسجون غيّبته عن العالم 15 عامًا انقطع تواصله فيها عن عائلته انقطاعًا كاملًا منذ تسع سنوات، يفرد ذراعيه للحياة، يجر أشواقه متلهفًا للقاء نجليه عدي ويوسف اللذَين تركهما طفلين صغيرين وزوجته.

كان يبحث عن وجوههما بين حشد من العائلة والأخوة تجمعوا لاستقباله في الخارج، في لحظة تاهت نظراته عن التعرف عليهما، وخذلته ذاكرته في تلك اللحظة، فاستعان بأخوته متسائلًا باستغراب ونظرات تتجول على ملامح المحتشدين: "وين أولادي؟".

تقدم فتيان من بين الحشد نحوه يُعرّفان عن نفسيهما: "احنا ولادك يابا" وعانقَاه وضمهما لأول مرة احتضنت الدموع المشهد، في لحظةٍ أدخلت والدهما في صدمة فرح، مرّت عليه لحظات من الشوق والحنين لهما طوال مدة أسره.

أزاح المشهد صورة لملامح نجليه طبعتها ذاكرته لهما لحظة أسره، وصورًا للقاءات قليلة استطاعا زيارته ليخرج ويجد ابنه يوسف بعُمر (16 عامًا) وعدي (18 عامًا).

في منزله تكرر الأمر مع زوجته، فلولا طوق الياسمين الذي كان يلف رأسها مرتديةً الثوب التراثي، لتَساءل عن زوجته، بعدما خذلته الذاكرة في التعرف عليها كذلك، فمنذ عام 2014 حرم الاحتلال عائلته من زيارته تمامًا، وقبل ذلك كانت الزيارات تتم عبر مراحل متقطعة، وفي السنوات الأخيرة كان لا يُسمح له بالتواصل معهم إلا بمكالمة هاتفية كل ستة أشهر.

رمضان وعيد أول

لأول مرة منذ 15 عامًا يقضي شلوف رمضانه الأول بين عائلته، بعيدًا عن قضبان سجون الاحتلال وظلمته، فمنذ بداية شهر رمضان يحاول إمضاء معظم وقته مع زوجته التي يساعدها في إعداد وجبات الطعام، ويحاول تعويض نجليه عن سنوات طويلة غيبه السجن عنهما في أول فرحة ولمة عائلية على مائدة جمعت شمل عائلة فرّقتها السجون، وهي تستعد لاستقبال عيد الفطر الأول، لتكون الفرحة بوجوده فرحتَين.

أمام مقر الصليب الأحمر بمدينة غزة وفي فعاليات إحياء يوم الأسير الفلسطيني الذي يوافق 17 إبريل/ نيسان من كل عام، يقف شلوف برفقة عشرات المتضامنين مع الأسرى وهو الذي قبل شهر كانت تُرفع صوره أمام مقر الصليب، يفرض الشعر الأبيض احتلالًا كاملًا على لحيته كما يغطي شعره، تحمل ملامحه وطأة معاناة طويلة تعطيك عشر سنوات إضافية فوق عمره الحالي الذي لا يتجاوز 44 عامًا.

يطير الفرح من بين كلماته وهو يصف لصحيفة "فلسطين" لحظة الفرح قائلًا: "الحرية لا يمكن وصفها كأنك خرجت من قبر، لتعيش حياة مختلفة بين أولادك وزوجتك، الحياة في الخارج جنة، لدرجة أنني ومن شدة الصدمة لم أتحرك لمدة ثلاثة أيام، فبسبب الحرمان من الزيارات والتواصل لم أتعرف على نجلي ولا على زوجتي".

يحاول شلوف التعرف على الأماكن التي غادرها في منطقة بيت حانون، وتعويض نجليه طفولة مفقودة، وعلى أسماء أبناء أشقائه وأفراد من العائلة، وفي بعض الأحيان ينسى أن نجلَيه كبرا.

يبتسم صوته: "أحيانًا أطلب منهما مرافقتي للبقالة، فيَضحكان ويقولان: "احنا كبرنا يابا"، وغيرها من المواقف الأخرى، لأني أبقى بقربهما، فطبعت صورة لهما في مخيّلتي عندما كانا طفلين وأتعامل معهما بذلك".

اعتُقل شلوف عام 2008 عندما حاصرت قوة إسرائيلية خاصة منزله القريب من السياج الفاصل شرق بيت حانون، لحظات لا تغادر ذاكرته: "يومها كنت نائمًا، وتفاجأت بمحاصرة المنزل وينادون بمكبرات الصوت: "سلم حالك أنت مطلوب"، ثم اقتحموا البيت واعتُقلت".

10 دقائق

مرات قليلة سمح الاحتلال لعائلته بزيارته، وبعد عام 2014 منع زيارته، فكانت العشر دقائق التي يسمح له فيها بالحديث هاتفيًّا مع عائلته كل ستة أشهر فرصة التواصل الوحيدة، ويُخيّره إما بالحديث مع أولاده أو زوجته أو أمه، غيّر القهر ملامح وجهه ونبرة صوته متسائلًا: "عشر دقائق ماذا ستقول فيها عن أحداث مرّت عليك أو حدثت بالخارج في نصف عام".

وأمام ذلك كان يكتب نقاطًا مختصرة على ورقة وكذلك تفعل زوجته، وكلٌّ منهما يمنح نفسه فرصة قراءتها بنبرة سريعة على الآخر وكأنهما مذيعا نشرة أخبار وليس زوجين وذلك لاستثمار الوقت قبل أن تَفصل المكالمة تلقائيًّا.

 "كانت المكالمة تعني لي الكثير، أسمع صوت الحياة عندما أسمع صوت زوجتي أو أمي، لأننا نكون ميتين في قبر معزولين عن العالم لا ترى الناس ولا تسمع شيئًا، حتى أنني عندما أجريت عملية جراحية لزراعة جهاز لنبضات القلب مكثت بالمشفى لا أحد يعرف عني شيئًا إن كنت حيًّا أو ميتًا" يقول.

اعتقل الاحتلال شلوف بتهمة الانتماء لكتائب القسام عندما كان شابًّا لم يتجاوز 29 عامًا، لم تُغيّر سنوات الأسر مبادئه، بنبرة إصرار وتحدٍّ يوجّه رسالته من أمام فعالية يوم الأسير بكلمات ممتلئة بالانتماء وبنظرات متحدٍّ: "جئت اليوم للتضامن مع أخوتي بالسجون، وسأستمر في طريق المقاومة، فالأسر زاد صلابتي وقوتي على التمسك بكل شبرٍ فيها، وأولادي فداءً للوطن".

كانت زوجته تتسوق تستعد هي ونجلاها لاستقبال العيد الأول بحضور زوجها المحرر، تغمر الفرحة كلماتها وهي تتحدث لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف لحظة اتصالنا قائلة: "هذا رمضان الأول الذي نعيشه في فرح وسرور، وكذلك نستقبل العيد، فالأعوام الماضية مرّت حزينة علينا أولادي كانوا يرفضون شراء ملابس العيد في غياب والدهم، لكنهم هذه المرة طلبوا شراء ملابس العيد وكأنّ الحياة عادت إلينا من جديد بعدما كانت فرحتنا معدومة".